للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والذاكر بقوله: لا إله إلا الله إلخ، لم يذكر بقوله: سبحان الله وبحمده إلخ، مع استحقاق كل واحد منهما لأجر لا يظفر به إلا من قال مثل قوله، ولم يقل أحدهما بما قاله الآخر، بل قال بما يساويه في المبالغة في الثواب إلى حد لا يماثله أحد، ولا يحصل لغيره إلا من قال مثل قوله، فلا بد من الجمع بين الحديثين بأن يقال: الذاكر بأحد الذكرين مخصص من عموم الحديث الآخر، فالذاكر بأحدهما قد حصل له من الأجر بالنسبة إلى جميع الذاكرين من العباد ما لا يحصل لواحد منهم إلا من قال مثل قوله، فيدخل كل فرد من أفراد العباد تحت هذا العموم الشمولي إلا من قال بالذكر المذكور، أو بما يساويه، وهو الذكر الآخر.

فعرفت أن كل واحد من الذاكرين شامل لجميع الذاكرين مخصص تخصيصا متصلا بمن قال مثل قوله، ومخصص تخصيصا منفصلا بمن قال بالذكر الآخر المساوي له، وهو أن يعطى أجرًا [١ أ] لا يناله إلا من قال مثل قوله، وإيضاح هذا التخصيص أن يقال بأحد الذكرين قد تساوى القائل بالذكر الآخر في حصول المزية له، وهي أنه لا ينال مثل أجره إلا من قال مثل قوله، فيكون كل واحد منهما مستثنى من العموم الآخر، فالذاكر بالتسبيح خارج عن العموم المذكور في التوحيد، والذاكر بالتوحيد خارج عن العموم المذكور في التسبيح، وعموم حديث كل واحد منهما إنما هو بالنسبة إلى غيرهما، وهما مخصصان بخروج كل واحد منهما عن عموم الحديث الآخر، فيقال: الذاكر هذا التسبيح قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر هذا التوحيد، والذاكر بهذا التوحيد قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر بهذا التسبيح، فلم يبق حينئذ بين الحديثين (١) تعارض بالنسبة إلى


(١) قال القرطبي في " المفهم " (٧/ ٢٠): ثم لما كان الذاكران في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا مضاعفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة المتقدم، فإن فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: " من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب "، وفي حديث أبي أيوب عند مسلم رقم (٢٩/ ٢٦٩٢): من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب "، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة "، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث الباب.
فائدة:
وهذه الأجور العظيمة والعوائد الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأملها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإن لم يكن فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنه من أعظم العبادات لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
أخرجه مسلم رقم (٨)، وأبو داود رقم (٤٦٩٥)، والترمذي رقم (٢٦١٣)، والنسائي (٨/ ٩٧) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.