للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إذا ابتلي بشيء منها، وألجئ إلى الفتيا فيها، أو الحكم بشيء ولم يجد بدا من ذلك، وأقل الأحوال إذا لم يمكنه الصدع بالحق والقضاء بأمر الشرع أن يتخلص عن ذلك بالإحالة على غيره، فإن لم يتمكن من ذلك كأن يفوت بترك الخوض في مثل هذه الأمور مصالح دينية، أو ينشأ عن هذا الترك مفاسد في أمور أخرى فعليه أن يحكي ما جرت به الأعراف، واستمرت عليه العادات، ويحيل الأمر على ذلك، ولا يحيله على الشرع المطهر فيكون قد أعظم الفرية على الدين الحنيف، وخلط أحكام العادة بأحكام الوضع والتكليف، وإذا كان قد تقدمه من يجوز تقرير ما فعله من الأئمة والحكام الأعلام فليقل في مثل هذه الأمور التي لا تجري على مناهج الشرع، قال [٢٨] بهذا فلان، وفعله فلان، وحكم به فلان، وأفتى به فلان. وينبه على أن مسلك الشرع معروف، ومنار الدين مكشوف، ومنهج الحق مألوف مثلا إذا اضطر إلى فصل بعض الخصومات المتعلقة بالحدود التي بين أهل البوادي، ووجد بأيديهم ما يفيد بأن الواضع لذلك بينهم أحد المرجوع إليهم في العلم والدين، وأنه لا سبيل إلى الحكم بالشركة (١) الذي هو المنهج


(١) أخرج أبو داود رقم (٣٤٧٧) وأحمد (٥/ ٣٦٤) والبيهقي (٦/ ١٥٠) عن أبي خداش، عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا، أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار".
وهو حديث صحيح.
فوائد لا بد من الوقوف عليها في هذا الحديث:
١ - سلامة الدين باتقاء الشبهات:
"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه": فمن ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يشينه، ويعيبه فيسلم من عقاب الله وذمه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه.
٢ - من وقع في الشبهات وقع في الحرام، وذلك بوجهين:
أ - أن من لم يتق الله تعالى، وتجرأ على الشبهات، أفضت به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، والكبيرة تجر إلى ... قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: ١٤].
ب - أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم ونور الورع، فيقع في الحرام ولا يشعر به، وإلى هذا النور الإشارة إلى قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [الزمر: ٢٢]. وإلى ذلك الإظلام والإشارة بقوله: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) [الزمر: ٢٢].
٣ - قوله: "كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" هذا مثل ضربه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتحرج بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته من ذلك الحمى، لأنه إن قرب فالغالب الوقوع وإن كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة، وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
٤ - قوله: "ألا وهي القلب" هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء أقلبه قلبا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: إذا رددته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه، إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه، وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال:
ما سمي القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تضخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه، إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم. وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم.
٥ - واعلم أن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعز الأجزاء، إذ ليس ذلك المعنى الموجود في شيء منها، ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها ومجموع ذلك علوم وأعمال وأحوال.
العلوم وهي ثلاثة:
١ - العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاءوا به.
٢ - العلم بأحكامه عليهم ومراده منها.
٣ - العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.
الأعمال:
- وأما أعمال القلوب، فالتحلي بالمحمود من الأوصاف.
- والتخلي عن المذموم منها.
- منازلة المقامات والترقي عن مفضول المنازلات إلى سني الحالات.
الأحوال:
- مراقبة الله تعالى في السر والعلن.
- التمكن من الاستقامة على السنن.
انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (٤/ ٤٩٠ - ٤٩٧)، و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (٥/ ٢٨٤ - ٢٨٦).