الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرينَ. وبعدُ:
فإنه اتفق حدوث خصام بين جماعة ادّعى أهل الأموال السافلةِ على أهل الأموال العاليةِ أنَّهم أرسلوا إليهم ماءً غيلٍ حدثَ في شعابٍ وهضابٍ وأضبابِ جبال، وكان حدوثُ هذا الغيلِ المذكورِ في تلك المواضعِ لكثرة الأمطارِ، كما جرت العادة المستمرة أنها تخرجُ غيولٌ من مواضع عقِبَ نزول المطر الواسع لم تبقَّ أيامًا وتزول، فاتفق في عامنا هذا سنةَ ١٢١٠هـ أن الأمطار توافرتْ ودامت أيامًا، فنزل غيلٌ من المواضع المشار إليها وليس ذلك الغيلُ بمملوكٍ ولا وقع فيه سببٌ من أسباب المُلْكِ، فاستغنى أهل الأموال العاليةِ عن السقي به، وخشيوا فساد غِلاَّتِ الأ/والِ إذا دخل أموالَهم، والإضرارَ بالأرضِ، فعمقوا المداخل التي يدخل فيها الماءُ من تلك السائلةِ، وأرسلوه إلى مَنْ تحتَهم حتى انتهى إلى أرضِ قومٍ آخرينَ، وذلك حيثُ تنتهي السائلةُ، ولم يبقَ للماء طريقٌ إلا أصلاب الأموال، وأبدانَ الأطيان [١أ] لعدم وجود مكان هناك متروك من الحرث، حتى يكون مَمَرًّا للماء. فقال أهل الأموال السالفةِ: إنه يجب على أهل الأموال العالية أن يُدْخِلوه أملاكَهم لينصرفَ ضررهُ عن أملاكِهم. فقال أهل الأموال العالية: لا يجبُ علينا ذلك، لأنه يحصلُ الضررُ علينا كما حصل الضررُ عليكم، فلما ترافعوا لديَّ حَكَمْتُ: بأنه لا يجبُ على أهل الأموال العاليةِ أن يصرفوا الضرَّرَر عن أهل الأملاكِ السافلةِ بإدخال الضرر على أنفسهم لوجوه: أودعتُها الحكمَ الذي حررتُه بين المتنازعينَ، راجعةٍ إلى قواعدَ أصوليةٍ، وقوانينَ استدلالية قد اتفق عليها أئمةُ الأصول، ولم يخالِفْ فيها مخالفٌ لا من أئمتنا ـ عليهم السلام ـ ولا من غيرهم.
منها: أن ذلك الماءَ المنصبَّ من تلك الأمكنةِ لم يكن حدوثُه بفعل أهل الأملاك العالية، ولا وقع منهم سببٌ من الأسباب الموجِبَةِ لحدوثه، أو حدوثِ زيادتِه، بل هو حدثَ بنزول المطرِ الذي هو من فعل الله ـ عز وجل ـ وفيضِ رحمته [١ب].