للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تطيب نفسه، ويطمئن خاطره، لكن بشرط ألا يهمل الحكم لمن قد يفصل النصاب المعتبر إذا لم يحصل له ما طلبه من الطمأنينة.

فإن قلت: المفروض أن الشهادة التي قامت قد كملت فيها الشروط المعتبرة من العدالة وغيرها فما بقي وجه لطلب الطمأنينة.

قلت: كذلك أقول لكن إذا حصلت للحاكم ريبة تقتضي مزيد الاستثبات (١)، وطلب الطمأنينة، وفعل ذلك فهو لم يفعل منكرًا، بل معروفًا، لأن فشو الكذب يكون من أعظم الأسباب الموقعة في الريبة.

والعدالة المعلومة بالظاهر، أو بإخبار المعدل لا تنافي الاحتياط والاستثبات؛ فإنها من باب [٥ب] العمل بالظاهر الذي لا يستلزم مطابقته لما في الواقع، وما في نفس الأمر. والعدل قد يقع منه ما يخالف الظاهر إما غلطًا أو سهوًا أو غفلة أو جهلاً، ولا أريد بهذا أن مجرد هذه الاحتمالات يوجب بطلان العمل بالشهادة عند كمال نصابها وشروطها، فإن ذلك هو خلاف الشرع بلا شك ولا شبهة، بل أريد أنه إذا وقع من الحاكم الاستثبات (٢) والبحث والفحص حتى يطمئن خاطره، وينثلج صدره، أو يتضح له ما هو


(١) يجوز للقاضي أن يناقش الشهود، وأن يسألهم عن كل شيء في الشهادة وخاصة عند التهمة والشك فيسأل عن مصدر الشهادة وعن طريق العلم بها، وكيفية التحمل وعن صفات المشهود به، وعن أوصاف المشهود له والمشهود عليه، كما يحق له أن يفرق الشهود، ويسمع كلاً منهم على حدة، ويطرح عليه بعض الأسئلة ليستوثق من صحة شهادته وكذلك الحال في الكتابة وكيفيتها والطعن فيها وتزويرها، فإذا اختلف الشهود في الشهادة أو ثبت تزوير الكتابة رد الشهادة أو الكتابة أو الإقرار ولم يحكم به.
" الطرق الحكمية " (ص٢٤، ٤٩، ٦١)، " الحاوي " للماوردي (١٢/ ٥٨).
(٢) اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه، فإذا شهد عنده عدلان والقاضي يعلم خلاف ذلك. فلا يجوز له الحكم بالشهادة ويرفع الأمر إلى غيره. ويبدي رأيه وشهادته، وهذا يدل على أن القاضي لا يلتزم بالشهادة ولو توفرت شروطها إذا كانت تناقض علمه.
ولذا فاقتناع القاضي بالشهادة شرط لإعمالها، والحكم بموجبها وهذا اتفاق المذاهب.
" تبصرة الحكام " (١/ ٢٤٨).
والقاضي مسؤول عن التأكد من توفر الشروط في وسائل الإثبات فيتأكد من صحتها، ويتحرى الدقة فيها والضبط، ويسأل عن عدالة الشهود عند الجمهور بدون طلب الخصم خلافًا للحنفية الذين يجعلون العدالة من حق الخصم في حقوق العباد، فلا يسأل القاضي عنها إلا إذا طلبها الخصم، فالقاضي يتأكد من توفر الشروط في الشاهد وانتفاء الموانع فيه، وأنه عدل وصادق القول ويترجح بقوله الصدق على الكذب، وكذلك الحال في شروط الكتابة، وصحة الاحتجاج بها، وشروط الإقرار باليمين والخبرة وجميع وسائل الإثبات.
والقاضي هو صاحب الرأي الأخير في قبول الإثبات أو رفضه بعد هذا التحقيق والتأكد من صحته وسلامته أو ثبوت عكسه.
وفي القرائن فقد ترك الشارع له أن يستنبطها كيف ما شاء وترك للقاضي العادل حرية التقصي، فلا حكم إلا وضميره هادئ مستريح من هذا الاستنتاج والبحث.
انظر: " المهذب " للشيرازي (٢/ ٢٩٧)، " حجية القرائن " (ص١٦٣).