للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله، ورضي الله عن صحبه، وبعد:

فإنه كثيرا ما يقع البحث بين أهل العلم في وجود الجن، والباعث على ذلك هفوة وقعت من بعض علماء هذه الديار الموجودين بعد مضي ألف سنة من الهجرة. ولم يكن ذلك منه عن اعتقاد مطابق لما تكلم به، لأنه من علماء الكتاب والسنة، ومن أهل الدين المتن، ولكنه باحثه بعض المقصرين في هذه المسألة فجزم في مقام المباحثة بعدم وجودهم كما يقع كثيرا بين المتناظرين من النقض والمعارضة.

واعلم أنه لم يتقدم إلى إنكار ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وعلماء الإسلام أحد قط، وإنما هي مقالة مروية عن جماعة من الفلاسفة، وجمهور الزنادقة، وهؤلاء لا نتكلم معهم في هذا المقام، فإنهم لا يتمسكون بشيء من الحجج القرآنية، والأحاديث النبوية، ولا يلتفتون إلى شيء من ذلك. وقد فرغ منهم الشيطان وأخرجهم من زمرة الإسلام، ولكنا نتكلم هاهنا مع بعض القائلين بذلك من المعتزلة (١)، فقد نقل جماعة عن جمهورهم، ونقله آخرون عن البعض منهم، وهذه الطائفة من أهل الإسلام، ومن المتمسكين بشرائعه، وإن خالفوا في بعض المسائل الأصولية خلافا تدفعه النصوص القرآنية، ومتواتر السنة، فلم يكن ذلك منهم كيادا للدين، ولا دفعا في وجه شريعة المسلمين، بل تمسكوا بشبهة أشبهت عليهم قالوا بها وقصروا عن العلم بغيرها مما يدفعها ويرفع لبسها.

ولكن الشأن في إنكار من أنكر (٢) منهم وجود الجن (٣)، فإنه لا يكون إلا أحد رجلن:


(١) سيأتي التعريف بها (ص ٦٥٦).
(٢) انظر الإرشاد (ص ٢٧١ - ٢٧٢) للجويني.
(٣) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاوى (١٧/ ٤٦٥): " الجن سموا جنا لاجتنانهم، يجتنون عن الأبصار، أي: يستترون، كما قال تعالى: {فلما جن عليه الليل} [الأنعام: ٧٦]. أي استولى عليه فغطاه وستره.
وقال: "والإنس سموا إنسا لأنهم يأنسون" كما قال تعالى} إني آنست نارا {[طه: ١٠] أي رأيتها.
وقال الحافظ في الفتح (٦/ ٣٩٤) "والمراد بالشيطان: المتمردة من الجن".
* وقال: والرسول مبعوث إلى الجنسين، لكن لفظ الناس لم يتناول الجن ولكن يقول} يا معشر الجن والإنس {[الرحمن: ٣٣].
لذلك تعلم أن لفظ الجن ليس قسما من لفظ الإنس ولكنه قسيم له.
* قال إمام الحرمين في "الإرشاد" (ص ٢٧٢): الجن والشياطين أجسام لطيفة نارية غائبة عن إدراك العيون قال: وعن بعض التابعين أن من الجن صنفا روحانيا، لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يأكل ويشرب.
والله أعلم بكيفية ذلك ومن مستفيض الأخبار أنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزاد فأباح لهم كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه يجدونه أوفر ما كان لحما. وقيل: إنهم يعيشون بالشم لا بالأكل، وورد أن أرواث دوابنا علف دوابهم.
* قال الونشريسي في "المعيار المعرب" (١٢/ ٣٠٩): قيل: والصواب أن حكم من أنكر وجود الجن من المعتزلة أنه كافر، لأنه جحد نص القرآن والسنن المأثورة والإجماع الضروري، وآية الأحقاف وسورة:} قل أوحى {أي سورة الجن. وخطاب الجن والإنس معلوم بالضرورة، وكذا ذكر توعدهم بالنار، فهو بنص القرآن" اهـ.