للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتأملْ موقع هذا الخطابِ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "يا صاحبَ المقراةِ لا تخبره" ثم يواجه هذا الصحابيَّ الجليلَ بقوله: "هذا متكلِّفٌ" فإنَّ في هذا أبلغَ زاجرٍ للمحكِّمينَ للشكوكِ، المتنطعينَ المتكلِّفين، المثبتين في هذه الشريعة ما ليس منها والأحاديث (١) في هذا الباب كثيرة لمن تتبعها، وأمعنَ النظرَ في شأنها.

ولا شك أن الزرعَ الذي وقعَ السؤالُ عنه عند دياسته بدوابً لا تؤكلُ كالحميرِ والأُتنِ محكومٌ له بالطهارةِ؛ لأنه متولِّد بين طاهرينِ: الترابِ الذي نبتَ، والماء الذي سُقي به، بل هما مستحقَّان لوصف زائدٍ على مجرد كونِهما طاهرينِ وهو أنهما مطهَّران لغيرهما.

وإذا تقرر أن الزرع المذكورَ [٢أ] طاهرٌ وأن طهارتَه مجمعٌ عليها من جميع المسلمينَ فالواجبُ استصحابُ هذا الأصل. ومن عَرَضتْ له شكوكٌ فسأل عن طهارتِها قلنا كما قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر رضي الله عنه أنه متكلِّفٌ.

وأما إذا كان السؤالُ بأشياءَ لا عن مجرَّد شكوكٍ كهذا السؤالِ الذي أورده السائل- كثر الله فوائده- فإنه إنما سأل عن شيء يشاهده ويشاهده غيرُه من دياسِ الزُّرَّاعِ في الجرينِ بالدوابِّ التي لا يؤكلُ لحمُها؟ فنقول: لا شكَّ أن الدياس بها مظنَّة لوقوع البولِ


(١) منها ما أخرجه البخاري رقم (٧٢٨٨) ومسلم رقم (١٣٣٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا". فقال رجلٌ: أكلُ عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلك بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (٢/ ٣٧٥) وصحح إسناده ووافقه الذهبي عن أبي الدرداء رضي الله عنه (رفع الحديث) قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله العافية فإنَّ الله لم يكن نسيًّا، ثم تلا هذه الآية: (وما كان ربك نسيا) [مريم: ٦٤]