للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

وجدتُ بخطِّ المولى شيخ الإسلام -رضي الله عنه- ما لفظه: ذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة علي بن موسى الرضا (١) ما لفظُهُ: بعد حذف السندِ منه إليه لما أُدخِلَ على المأمون رجلٌ نصراني قد وُجِدَ مع امرأةٍ هاشميةٍ، فلما أدخل عليه أسْلَمَ فغاظ المأمون ذلك غيظًا شديدًا، فاستفتى الفقهاء فكلٌّ قال: هدمَ إسلامُهُ ما فعلَه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، اكتب إلى علي بن موسى في هذا. قال: فكتب إليه فوافاهُ علي بن موسى فقال: يا أمير المؤمنين، اضرب عنُقَهُ؛ فإنه إنما أسلمَ [اأ] مخافةً من السيف، فقال الفقهاء: من أين لك هذا؟ قال: فقرأ علي بن موسى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (٢) انتهى.


(١) علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، بن محمد الباقر، بن علي، بن الحسين، الهاشمي العلوي المدني، وأمه ثويبة اسمه سُكينة. كان مولده بالمدينة سنة ١٤٨هـ.
قال ابن جرير الطبري في تاريخه (٨/ ٥٥٤): "إن المأمون جعل عليّ بن موسى وليّ عهده لأنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدًا هو أفضل ولا أعلم ولا أورع منه وأنه سماه الرضي من آل محمد توفي سنة ٢٠٣هـ.
انظر "تاريخ الطبري" (٨/ ٥٥٤، ٥٦٨)، "سير أعلام النبلاء" (٩/ ٣٨٧)، "شذرات الذهب" (٢/ ٦٠٢)، "وفيات الأعيان" (٣/ ٢٦٩).
(٢) [غافر: ٨٤، ٨٥].
قال الألوسي في "روح المعاني" (٢٤/ ٩٢ - ٩٣):
"فلما رأوا بأسنا" مترتب على قوله تعالى: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات " تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن " فلما جاءتهم " الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والسنة فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء "فلم يك ينفعه" عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار.
" سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله.
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (١٥/ ٣٣٦) "سنة الله" منصوب على التحذير والإغراء: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة.
وانظر "جامع البيان للطبري" (١٢جـ ٢٤/ ٩٠).
قال الرازي في تفسيره (٢٧/ ٩١ - ٩٢):
المعنى: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم، فإن قيل اذكروا ضابطًا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه.
قلنا: إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان، فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه، حتى يكون المرء مختارًا، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا.
قال تعالى: "سنة الله التي قد خلت في عباده " المعنى أن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم.
قال ابن كثير في تفسيره (٧/ ١٦٠):
" فلما رأوا بأسنا " أي: عاينوا وقوع العذاب بهم.
" قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " أي: وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال هذه العثرات ولا تنفع المعذرة، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق: " آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " [يونس: ٩٠].
قال سبحانه وتعالى: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " [يونس: ٩١]. أي: فلم يقبل الله منه، لأنَّه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال: "واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " [يونس: ٨٨]. وهكذا هاهنا أيضًا قال: " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ": أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب. أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث: "أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"- أخرجه الترمذي رقم (٣٥٣٧) وابن ماجه رقم (٤٢٥٣) من حديث ابن عمر - أي: فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك، فلا توبة حينئذ ولهذا قال: "وخسر هنالك الكافرون ".