للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[١٥]، ومعاقرة العقار، وخلع العذار والوقار؛ فإن سامع هذه الأنواع في مجامع السماع لا ينجو من بلية، ولا يسلم من مجنة، وإن بلغ من التصلب في ذات الله إلى حد القصر عنه الوصف.

وكم لهذه الوسيلة من قتيل دمه مطول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، ولا سيما إذا المغني حسن الصورة والصوت، كالمرأة الحسناء، والغلام الجميل، وما كان الغناء الواقع في زمن العرب في الغالب إلا بأشعار فيها ذكر الحرب. وصفات الطعن والضرب، ومدح صفات الشجاعة والكرم.

والتشبيب بذكر الديار، ووصف النعم. فليحذر المتحفظ لدينه، الراغب في السلامة؛ فإن للشيطان حبائل ينصب لكل إنسان منها ما يليق به، وربما كان الغناء على الصفة التي وصفناها من أعظم خدائع الخبيث، ولا سيما لمن كان في زمن الشبيبة؛ فإن نفسه تميل إلى المستلذات الدنيوية بالطبع، وأيضًا السماع من أعظم الأسباب الجالبة للفقر المذهبة للأموال، وإن كانت عظيمة القدر.

وقد قال بعض الحكماء: إن السماع من أسباب الموت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لأن الرجل يسمع، فيطرب، فينفق، فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت (١).


(١) وما أعظم كلمات الشوكاني هنا في إشارة إلى أخطار السماع وأثره على النفوس والدين والعرض والمال والمجتمع.
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (١/ ٣٥٢): فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه:
١ / أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله - ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعًا لبان.
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
ثم قال رحمه الله (١/ ٣٥٤): ومن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة، قل أن تجد مفتونًا من الغناء إلا وهذا وصفه.
- قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: ١٤٢].
قال ابن القيم في "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" (ص ١٠٣ - ١٠٤). والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان ذم الله من يتبعهما ويحكمهما على الوحي الذي بعث به أنبياءه ورسله.
قال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: ٢٣]. فالظن الشبهة وما تهوى الأنفس الشهوة والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا.
قال تعالى: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: ٦٩].
فالاستماع بالخلاق وهو النصيب هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة فهذان الداءان هما داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركب أمره من هذين الأصلين.
فأما الشبهة التي فيه فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم حضرة سادات المشايخ ومن لا يطعن عليه، وأقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء وسمع الشعر وأجاز عليه ... وما هو صريح في الدلالة فكذب موضوع على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرك ذلك لما في قلبه شيء من المحبة الصادقة وهذا أمره لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة منه.
وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذ بسماع الغناء وتطرب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظها الوافر منه، حتى ربما أسكرها وفعل فيها ما لا يفعله الخمر. فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة، والخمرة تسكر النفوس بها أتم سكر. ولهذا قال الله تعالى في اللوطية لما أخذهم العذاب {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر: ٧٢].