للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جواز الترك، وبعضها بأولوية الفعل، وبعضها بأولوية الترك، فإنه قد جمعها كلها أنه لا يعاقب فاعلها، وذلك شأن الحلال. ويقابل ذلك ما يعاقب فاعله وهو الحرام البحت، ومنه المكروه كراهة حظر وكراهة تحريم على اختلاف العبارات في ذلك، فإن حكم الجميع التحريم، لكونه يعاقب فاعله، وبهذا تعرف معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " الحلال بين، والحرام بين"، أن الأمور المشتبهة هي التي لم يتضح الدليل على حرمتها أو حلها مع ورود دليل يدل في الجملة على ذلك لا على وجه الإيضاح والبيان.

وأما المسكوت عنه بالمرة فهو عفو كما ثبت ذلك عن الشارع - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فإن اتضح الدليل على اتصافها بأحد الوصفين فقد ذهب الاشتباه، وتبين الأمر واتضح الحكم، ومن قسم المشتبه ما تعارضت أدلته، فدل بعضها على جواز الفعل، وبعضها على المنع منه، ولم يأت دليل يدل على ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، كما يفيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث المذكور بعد ذكر الشبهات، ففي لفظ للبخاري (١) "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (٢) " لا يدري كثير


(١) رقم (٥٢)
(٢) في "السنن" رقم (٢١٠٥).
قال النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (١١/ ٢٧) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده أنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة هو ثلث الإسلام، وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس.
قال العلماء وسبب عظم - حديث النعمان - أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من موافقة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى. . .
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلال بين والحرام بين، أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن. . . وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فهي حلال بين واضح لا شك في حله.
وأما الحرام البين: كالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة.
وأما المشتبهات: فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس لا يعلمون حكمها وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيها نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا ألحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع تركه ويكون داخلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. .
انظر: "فتح الباري" (١/ ١٢٧)