(٢) تقدم توضيحه. قال ابن تيمية في "السياسة الشرعية" (ص ١٧٤): متى اهتم الولاة بإصلاح دين الناس، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم، وملاك ذلك كله حسن النية للرعية، وإخلاص الدين كله لله، والتوكل عليه، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: ٥] فإن هاتين الكلمتين قد قيل إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء، وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان مرة في بعض مغازيه، فقال: "يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين" فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وقوله تعالى: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذبح أضحيته - يقول: "اللهم منك ولك" - وأعظم عون لولي الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها. أحدها: الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. الثالث: الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب، ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر، كقوله تعالى في موضعين: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) وكقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [هود: ١١٤ - ١١٥]. فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع. كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه" تقدم وهو حديث صحيح. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس. . . أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: ٢٧]. فمثلا: القوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال. . . ". القوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي أتخذها الله على كل حكم على الناس. قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]. وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها وأمانته، وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام. ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم. وانظر مزيد التفصيل: " السياسة الشرعية " لابن تيمية. "تسهيل النظر وتعجيل الظفر "الماوردي "درر السلوك في سياسة الملوك".