للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأفخم، وأجود قولُ القائل (١):

وقد ظُلِّلت عُقْبَانُ راياته ضُحًا ... تعفيانِ طيرَ الدني نواهل

أقامت على الرايات حتى كأنَّها ... من الجيش إلاَّ أنها لم تقاتلِ

فهاهنا جعل الطير لكثرة نصرِ صاحب الرايات واثقةً بنصره لاعتيادِها لذلك، واستمرارها عليه، حتى كأنها عند الغزو واثقةٌ ستأكلُ من لحوم أعدائِه، فأثبت لها هذا العلم المفيدَ لاستمرار النصر، وأنه للممدوح عادةٌ جاريةٌ، مع كونها متراكمةً على راياته حتى ظللتَها.

ومع ما ذكر العقبانِ على العقيانِ من الحسن البالغ، والجناس الفائقِ. ثم ألا قال الزمخشري ـ رحمه الله ـ هذه المقالةَ فيما هو أحق بها وأولى، وهو قول القائل:

وقائلةٍ يا راكبَ الخيل هل ترى ... أبا ولدي عنه المنيةُ ذلَّتِ

فقلت لهاك لا علمَ لي غيرَ أنني ... رأيتُ عليه المشرفيةُ سُلَّتِ

ودارت عليه الخيلُ دورينِ بالقَنَا ... وحامتْ عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ

فصكَّت جبينًا كالهلالِِ إذا بدا ... وقالت لك الويلاتُ ثم تولَّتِ

فهاهنا قد قوله: وحامت عليه الطيرُ ثم تدلَّتِ أحسنَ موقعٍ من الدلالة على أنه قتيلٌ يأكل من لحمه الطيرُ، مع أن أكلَ لحومِ القتلى عادةٌ للطيور، فليس في قوله: على لحم ما قدمنا في العقبانِ المظلِّلَةِ للرايات من حصول العلمِ لها المستفادِ من العادة الجاريةِ العائدة على الممدوح بأكبرِ مدح، وأفخمِ ثناءٍ. وغايةُ ما في بيت المربَّةِ أنه لحمُ رجلٍ عظيم، فقايس بين هذا المدح العائدِ إلى صاحب اللحمِ، وبين المدح العائد إلى صاحب الراياتِ، فإنك تجده ما بين الثَّرا والثُّريَّا، ومطلعِ الشمس ومغربِها.

ومثلُه قول القائل (٢):


(١) أبو تمام، انظر ديوانه (ص٢٣٣) في قصيدة يمدح المعتصم ...
(٢) قال في (خزانة الأدب) (٤/ ٢٨٩) هذا المعنى أعني تتبع الطير للجيش الغازي للأعداء حتى تتناول من القتلى متداولٌ بين الشعراء قديمًا وحديثًا وأوّل من جاء به الأفوَهُ الأوديُّ في قوله:
وتر الطيرَ على آثارنا ... رأي عينٍ، ثقةً أن ستَمُارُ
أي تأخذه الميرة من لحوم القتلى.
وكلهم قصر عن النابغة لأنه زاد في المعنى فأحسن التركيب، ودلَّ على أنَّ الطير إنَّما أكلت أعداءَ.
الممدوح.
قال النابغة مادحًا عمرو بن الحارث الأصفر ابن الحارث الأعرج، حين لجأ إليه في الشام:
إذا ما غزوا بالجيش، حلَّق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانحَ قد أيقنَّ أنّ قبيلة ... إذا ما التقى الجيشان أولُ غالبِ
لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنها ... إذا عُرِضَ الخطيُّ فوق الكواثبِ
(خزانة الأدب) (٤/ ٥٨٩ ـ ٢٩٠) (ديوان النابغة الذبياني) (ص٣٠ ـ ٣١).