للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأشكل علينا هذا الكلامُ، وكان قد دار بيني وبين الوالد العلامة درةُ تاجِ الفضلِ والكرامة، مَعيْنُ المعارفِ، سلوةُ المؤلفِ والمخالفِ، الحسن بن علي حنش (١) ـ كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده [١]ـ فقلت له: أيُّ معنى لتفسير حكم الله في عَرَصاتِ القيامة بين هؤلاء بأنَّه سيعذِّبهم في الدنيا حال كونه يومَ القيامة؟ هل هذا إلا تناقضٌ ظاهرٌ؟ ولو كان سَوْقُ الآية هكذا: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابًا شديدًا في الآخرة) لكان المعنى واضحًا لا غبار عليه، وكان التفسير للحكم ظاهرًا لمن لمح إليه.

فأجاب الوالد العلامة الحسن ـ دامت فوائده ـ بأن قال: المساقُ صحيحٌ، والتفسير في الآية واضح صريحٌ، وأن الله أخبر أن حُكْمَهُ في الكافرين تعذيبُهم في الدنيا والآخرة، وأن كلام العلامة جار الله (٢) لا يحتمل زيادةً على هذا ... وقال ـ عافاه الله ـ لما بشَّر الله عيسى بأنه رافعه ومطهِّرُه، وكذا وكذا رتَّب على تلك البشارةِ بشارةً أخرى لعيسى وغيره فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ الآيات. لكنه لم يظْهَرْ لي ما قاله ـ أي قول الوالد العلامة الحسنِ ـ عافاه الله ـ ولا تبيَّن لي صحَّةُ كلام جار الله على إيجازه، وعدم الإطالة.

وكان قد ظهر لي بعد التأمل الطويلِ شيءٌ، وهو أن جَعْلَ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة مجهولٌ، (٣) بيَّن بأن الذين كفروا معذَّبين في الدنيا: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (٤) والأمرُ كذلك، وفي الآخرة لهم عذابُ النارِ. فهذا معنى جَعْلِ الذين اتبعوه فوقَ الذين كفروا.

وأما الذين آمنوا ففوقيَّتُهم متحققة في الدنيا والآخرة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ


(١) تقدمت ترجمته.
(٢) أي الزمخشري في (الكشاف) (١/ ٥٦٢).
(٣) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (٢٩).
(٤) [آل عمران: ١١٢].