للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رجوِعكم إلىَّ أوقعتُ الحكمَ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فهذا الحكمُ قد تقيَّد بوقتِ الرجوعِ، ولا ريب أن الرجوعَ إلى الله هو بعد المفارقةِ لهذه الدارِ، فلا يصح أن يكون من جملةِ المحكومِ به عذابُ الدنيا الذي قد مضى وانقضى في تلك الحال [٤]، وليس الحكم هو مجرَّد الإخبارِ حتَّى يقال أنه أخبرَ بذلك خبرًا خاليًا عن الحكم، بل المرادُ إيقاعُهُ للحكم حينئذٍ، كما هو المشعورُ به من الصيغة والتركيبِ.

ولا أقول أن المعنى كما ذكره السائلُ ـ كثر الله فوائدِه ـ في هذا السؤالِ، وهو أن قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} إلخ بيانٌ لقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} إلخ، لأنَّ البياناتِ لا تجيء على هذه الصيغة، بل لا بد من توسيطِ تقديرِ السؤالِ والحكمِ على الجملة بالاستئنافِ، فتكون منفصلة عن قوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} بخلاف ما لمح إليه السائل ـ عافاه الله ـ فإنه يوجبُ أن تكون متصلةً، وهذا يحتاج إلى مزيدِ تدبُّر لما قُرِّرَ في علمِ المعاني من أحكامِ الوصل (١) والفصل. (٢)


(١) الوصل عطف: بعض الجمل على بعض.
قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل.
(معجم البلاغة العربية) (ص٥١٣).
(٢) الفصل: هو ترك هذا العطف ـ فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأُولى إما أن يكون لها محل من الإعراب، بأن تكون خبرًا نحو: الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. أو حالاً نحو: أبصرت عليًّا يلهو ويلعب. أو صفة نحو: أبصرت ولدًا يلهو ويلعب، أو مفعولاً نحو: أتخال الحق يخفي ويُطمس؟ أو مضافًا إليه نحو: جاء الحق وزهق الباطل. فإذا كان للأولى محل، وقصد تشريك الثانية لها في حكم إعرابها عطفت عليها بالواو وغيرها، ليدل العطف على التشريك المقصود كالمفرد، فإنه إذا قصد تشريكه لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه فاعلاً أو مفعولاً أو نحو ذلك وجب عطفه عليه نحو اقبل عليٌّ وأخوه، وقابلت عليًّا وأخوه (معجم البلاغة العربية) (ص ٥١٣ ـ ٥١٥). ?
قال الرازي في تفسيره (٨/ ٧١ ـ ٧٢): قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
اعلم أن الله تعالى لما ذكر: {مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بين بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلافُ فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل:
١) أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين:
أ) القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا.
ب) ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب. وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟
قال بعضهم: إنّه عقاب في حق الكافر. وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابًا بل يكون ابتلاءً وامتحانًا.
وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابًا بل يكون أيضًا ابتلاءً وامتحانًا ويكون جاريًا مجرى الحدود التي تقام على التائب، فإنها لا تكون عقابًا بل امتحانًا والدليل عليه أنّه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابًا.
فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذب للكافر على كفره: وهذا على خلاف قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وكلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن توجد المؤاخذة في الدنيا.
وأيضًا قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا، قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكر نحوها عامة، والخاص مقدم على العام.
٢) لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وتارة يكون على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتًا.
قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسي عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم. فزال الإشكال.
٣) وصف الله هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد. ولذلك إذا زال العهد حل قتله. انظر: (جامع البيان) (٣ جـ٣/ ٢٩٣ ـ ٢٩٤).