وهذه العلاقة تتضمن تجاوباً بين صلابة البنية الفوقية العسكرية وجدارة البنية التحتية السياسية.
وربَّ ناقدٍ يغلب عليه التفكير السطحي عاصر الحملات التي انطلقت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً لما فاته أن يعتبر كخطأ مميت تصرف أبي بكر؛ عندما ألقى بالجيش الإسلامي في معارك ثلاث في وقت واحد (١)، إحداها داخل الجزيرة العربية ومعركتان في الخارج على الحدود.
إنما فات هؤلاء النقاد أنه بالإضافة إلى الظروف التي لم تدع للخليفة فرصة الاختيار؛ فقد بنى الحساب على أساس المعطيات السياسية للعصر. إذ لا ننسى أنه كان في المدينة أبو بكر وعمر.
(١) حينما جهز أبو بكر رضي الله عنه جيش أسامة إلى بلاد الشام ارتدت بعض قبائل العرب، ومنعت الزكاة وهاجموا المدينة؛ فخرج أبو بكر بنفسه للقائهم، وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي للدكتور حسن إبراهيم حسن ١/ ٢١٤: ووجه أبو بكر همه بعد ذلك إلى إخماد الفتن والثورات الداخلية ليشغل العرب بالحروب الخارجية؛ لأنها كانت تفي بما أمر به الدين من نشر الإسلام من جهة، ولأنها كانت من جهة أخرى استغلالاً صالحاً لما جبل عليه العربي من حب القتال. لذلك لم يكد أبو بكر ينتهي من حروب الردة الطاحنة التي شنها على العرب المارقين، حتى أرسل تلك الجيوش وزودها بالأمداد يتلو بعضها بعضاً لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها. فأنفذ خالد بن الوليد إلى الحيرة، ودعا المقاتلين من أرجاء الجزيرة العربية للجهاد في سبيل الله، وأنفذهم إلى بلاد الشام. وإن توجيه أبي بكر الجيوش لغزو دولتي الفرس والروم في وقت واحد؛ مع ما كان لهاتين الدولتين من الملك وبسط النفوذ ووفرة الثروة ليدل على حسن سياسته وقوة عزيمته. غير أننا لا نعجب إذا عرفنا ان هاتين الدولتين. وإن كانتا مضرب الأمثال في الأبهة والعظمة إلا أن هذا كله كان أمراً ظاهرياً فقط، فقد أضعفهما استبداد الملوك، والبذخ، والخلافات الدينية، والتنافسي على الملك؛ على حين ألف الإسلام بين قلوب العرب، فوجد أبو بكر في الأمة العربية الفتية المؤلفة بالحرب، المتقشفة في طعامها ولباسها مع ما عليه رجالها من شدة الإيمان، والحرص على الاستشهاد في سبيل نصرة الدين خير معين للقضاء على هاتين الدولتين.