للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أحدهما قد صلح في مكان الآخر، وتعلم أنّ المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر، كما هو العبرة في حمل الخفيّ على الجليّ. وينعكس لك هذا الحكم، أعني أنّك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه، كذلك تجد الفعل يقع ثمّ لا يصلح الاسم مكانه، ولا يؤدّي ما كان يؤدّيه.

فمن البيّن في ذلك قول الأعشى: [من الطويل]

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّق

تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق «١»

معلوم أنه لو قيل: «إلى ضوء نار متحرّقة»، لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس، ثم لا يكون ذاك النبوّ وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به، بل من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال.

وكذلك قوله: [من الكامل]

أوكلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «٢»

وذلك لأن المعنى في بيت الأعشى على أنّ هناك موقدا يتجدّد منه الإلهاب والإشعال حالا فحالا، وإذا قيل: «متحرقة»، كان المعنى أن هناك نارا قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة، وجرى مجرى أن يقال: «إلى ضوء نار عظيمة» في أنه لا يفيد فعلا يفعل وكذلك الحال في قوله: «بعثوا إليّ عريفهم يتوسم»، وذلك لأن المعنى على توسّم وتأمّل ونظر يتجدّد من العريف هناك حالا فحالا وتصفّح منه الوجوه واحدا بعد واحد: ولو قيل: «بعثوا إليّ عريفهم متوسّما»، لم يفد ذلك حقّ الإفادة.


(١) البيتان في ديوانه (١٤٩، ١٥٠)، وقبلهما:
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفّق
ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوّز السّكّي في الباب فيتق
اليفاع: مرتفع من الأرض.
(٢) البيت لطريف العنبري، وهو طريف بن تميم العنبري أبو عمرو شاعر مقل، جاهلي قتله أحد بني شيبان، وكان يسمى: «ملقي القناع» لأنه أول من ألقى القناع بعكاظ. والبيت في الأصمعيات (١١٧)، والإيضاح (٩٥)، والإشارات والتنبيهات (٦٥)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (١/ ١٠٦). وعكاظ: أكبر أسواق العرب في الجاهلية، وعريف القوم: رئيسهم أو القيّم بأمرهم، يريد أنهم يبعثون إليه
عريفهم من أجل شهرته وعظمته.

<<  <   >  >>