يكون رائيا له، وأن يكون الشيء موجودا في نفسه، كذلك لا يكون تخيّله أنّه كأنّه ينطق بالألفاظ، موجبا أن يكون ناطقا بها، وأن تكون موجودة في نفسه، حتّى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها.
ثمّ إنّا نعمل على أنه ينطق بالألفاظ في نفسه، وأنه يجدها فيها على الحقيقة، فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ماذا يروم، ليت شعري، بذلك الفكر؟
ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء، أو يصف شيئا بشيء، أو يضيف شيئا إلى شيء، أو يشرك شيئا في حكم شيء، أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشيء، أو يجعل وجود شيء شرطا في وجود شيء، وعلى هذا السبيل؟ وهذا كلّه فكر في أمور معقولة زائدة على اللفظ.
وإذا كان هذا كذلك، لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين: إمّا أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كلّه في الألفاظ وإمّا أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني.
فإن ذهب إلى الأوّل لم يكلّم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوّز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا، في الألفاظ. وذلك ممّا لا يخفى مكان الشّنعة «١» والفضيحة فيه.
وشبيه بهذا التوهّم منهم، أنّك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تترتّب في نفسه إلّا بترتّب الألفاظ في سمعه، ظنّ عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، وأن التّرتّب فيها مكتسب من الألفاظ، ومن ترتّبها في نطق المتكلم.
وهذا ظن فاسد ممن يظنّه، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلّف له، والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع، وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون التّرتّب فيها تبعا لترتّب الألفاظ ومكتسبا عنه، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني، وأن تقع في نفس الإنسان أوّلا، ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها، بالعكس مما يعلمه كلّ عاقل إذا هو لم يؤخذ عن نفسه، ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلّا من أجل المعاني؟ وهل هي إلّا خدم لها، ومصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها، وأوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني وأن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن