وكذلك فانظر إذا قيل لك:«كيف زيد؟»، فقلت:«صالح»، هل يكون نقولك «صالح» أثر في نفسك من دون أن تريد «هو صالح»؟ أم هل يعقل السّامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟ فإنه ممّا لا يبقى معه لعاقل شكّ أن «الخبر» معنى لا يتصوّر إلّا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا، والآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيّا، والآخر منفيّا عنه وأنه لا يتصوّر مثبت من غير مثبت له، ومنفيّ من دون منفيّ عنه.
ولما كان الأمر كذلك، أوجب ذلك أن لا يعقل إلّا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا:«خرج زيد»، أو اسم واسم، كقولنا:«زيد منطلق»، فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل، وبغير هذا الدليل. وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمّة، وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة.
وإذ قد عرفت أنه لا يتصوّر الخبر إلّا فيما بين شيئين: مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث. وذلك أنه كما لا يتصوّر أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه، وكذلك لا يتصوّر أن يكون خبر حتّى يكون له «مخبر» يصدر عنه ويحصل من جهته، ويكون له نسبة إليه، وتعود التّبعة فيه عليه، فيكون هو الموصوف بالصّدق إن كان صدقا، وبالكذب إن كان كذبا. أفلا ترى أنّ من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته، ويكون هو المزجيّ لهما، والمبرم والناقض فيهما، ويكون بهما موافقا ومخالفا، ومصيبا ومخطئا، ومحسنا ومسيئا.
- وجملة الأمر، أن «الخبر» وجميع الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرّفها في فكره، ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض، وأعظمها شأنا «الخبر»، فهو الذي يتصوّر بالصّور الكثيرة، وتقع فيه الصّناعات العجيبة، وفيه يكون، في الأمر الأعمّ، المزايا التي بها يقع التفاضل في الفصاحة، كما شرحنا
فيما تقدّم، ونشرحه فيما نقول من بعد إن شاء الله تعالى.
واعلم أنك إذا فتّشت أصحاب «اللّفظ» عمّا في نفوسهم، وجدتهم قد توهّموا في «الخبر» أنه صفة للفظ، وأن المعنى في كونه إثباتا، أنه لفظ يدلّ على وجود لمعنى من الشيء أو فيه وفي كونه نفيا، أنه لفظ يدلّ على عدمه وانتفائه عن الشيء.
وهو شيء قد لزمهم، وسرى في عروقهم، وامتزج بطباعهم، حتى صار الظنّ بأكثرهم أنّ القول لا ينجع فيهم.
والدليل على بطلان ما اعتقدوه، أنّه محال أن يكون «اللّفظ» قد نصب دليلا