«جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصّدق سببا، وحبّب إليك التثبّت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التّقوى، وأشعر قلبك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذّلة، وما في الجهل من القلّة»«١».
وكقول بعضهم:«لله درّ خطيب قام عندك، يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبلّ ريقه، وأسهل طريقه».
ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع:«أيفاخرك الملك اللّخمي، فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خير من رأسه، ولخطؤك خير من صوابه، ولعيّك خير من كلامه، ولخدمك خير من قومه».
وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان:«اللّسان أداة يظهر بها حسن البيان، وظاهر يخبر عن الضمير، وشاهد ينبئك عن غائب، وحاكم يفصل به الخطاب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومزيّن يدعو إلى الحسن، وزارع يحرث المودّة، وحاصد يحصد الضّغينة، ومُلهٍ يونق الأسماع».
فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب، إلّا بمعناه أو بمتون ألفاظه، دون نظمه وتأليفه، وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا، وحتى تجد إلى التخيّر سبيلا، وحتى تكون قد استدركت صوابا.
فإن قلت: أفليس هو كلاما قد اطّرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟
قيل: أمّا والصواب كما ترى فلا. لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرّز من اللحن وزيغ الإعراب، فنعتدّ بمثل هذا الصواب. وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم، فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتّى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطاء تركا حتى يحتاج في التحفّظ منه إلى لطف نظر، وفضل رويّة، وقوّة ذهن، وشدة تيقّظ. وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كلّ شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له، وميّزت ما الصنعة منه في لفظه، ممّا هي منه في نظمه.
واعلم أن هذا- أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ، وبين أن تكون في النّظم- باب يكثر فيه الغلط، فلا تزال ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه،