للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ظهره، بينما الشرطي يلاحقه وعلى وجهه أمارات الجد، كأنه يقوم بمهمة خطيرة. وسيرى أطفالاً آخرين، وقد راحت نظراتهم الزائغة تتربص مرور غرّ ينخدع بمظهرهم، بينما هم يمثلون (رواية البؤس) بطريقة تشوه من قيمة بؤسهم، وهم يلحون على من يستجدونه بأدعية مثيرة، كل هذا يحدث ورجل الشرطة رائح غاد أمام المشهد المهين دون أن ينبس بكلمة.

ثم يرى في المسار نفسه بعض قارئي الكف من المنجمين، وقد تعمموا بعمائم فخمة، يدعون كل سائح يتجول، وكل امرأة تمر، دون أن ينبس الشرطي أيضاً ببنت شفة.

إن لهذه المناظر اليومية دلالتها ومغزاها، فهي تكشف لنا عن فلسفة الاستعمار، التي تعبر عنها الآية التي صدرنا بها هذا الفصل: {إِنَّ الْمُلُوكَ (١) إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}. [النمل ٢٧/ ٣٤].

كذلك نجده يحول بين الشعب وبين إصلاحه نفسه، فيضع نظاماً للإفساد والإذلال والتخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء. وهكذا يجد الشعب المستعمَر نفسه محاصَراً داخل دائرة مصطنعة، يساعد كل تفصيل فيها على تزييف وجود الأفراد. ومن المسلم به أن هذا التضليل العلمي يعد تقويضاً لكيان الشعوب، يتعدل دائماً تبعاً للطوارئ، ليقف في وجه كل محاولة أو طاقة جديدة، فيحدها ويهدمها. ومن هنا كان الاستعمار ولوعاً بتتبع (النهضة الإسلامية)؛ ومن السهولة بمكان أن نعرف ما يريد الاستعمار أن يقحمه في المجتمع الإسلامي الحديث من عناصر الإرجاف، وعوامل التنافر. فإن مقدرته وطموحه


(١) يقصد بالملوك الغزاة المستبدون؛ لأن الملك بشكله المعروف أسلوب من أساليب الحكم لتنظيم المجتمع بمضان العدالة فيه، لا يتنافى مع المبادئ الأخلاقية.

<<  <   >  >>