ينتمي مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (مالك بن نبي) إلى بلد عربي إسلامي، عانى من تجربة الصدام بين المجتمع الأوربي المادي والمجتمع الإسلامي العربي، ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول المدة أو قوة الصراع أو عمق الأثر. إن الجزائر تمثل هذه التجربة في نواحيها المؤلمة ومآسيها، وفي جوانبها المنتجة الموقظة المبشرة، كما أن المؤلف نفسه عانى هذه التجربة فكرياً ونفسياً، كأشد ما يعانيها إنسان مثقف مرهف الشعور والحس.
ولعل قراء الأستاذ مالك لا يعرفون أنه مهندس كهربائي تخرج من كبريات المعاهد الهندسية العالية في فرنسا، وسلخ من حياته أكثر من ثلاثين سنة عاشها في أوربا، وكانت هذه السنون الطويلة والخصبة بالنسبة إلى رجل مثقف عميق الثقافة سبباً في إظهار ذاتيته، وإيقاظ الشعور في نفسه وفكره: إنه عربي مسلم، ليس هو من المجتمع الأوربي الذي عاش فيه بجسمه في شيء، وكان تعمقه في الثقافة الأوربية سبباً في تحرره من نفوذها، ومعرفته لمصادرها ومواردها، لدوافعها الخفية وبواعثها العميقة، ولا سيما أنه جمع إلى جانب الثقافة العلمية، ثقافة فلسفية واجتماعية واسعة الأرجاء، عميقة الأغوار، كما تدل عليه آثاره ومؤلفاته العديدة التي قرأناها. والمهم في الأمر أن ثقافته هذه لم تكن ثقافة فكرية تقتصر على ساحة الفكر، ولكنها نضحت بحرارة المأساة التي كانت تعيش فيها الجزائر، مأساة الاستعمار والاستعلاء والسلب، واستخدام أرفع النظريات