للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

١١١ - (٤١) حدثنا أبوبكرٍ جعفرُ بنُ محمدِ بنِ الحجاجِ الموصليُّ بالموصلِ: حدثنا محمدُ بنُ معدانَ الحرانيُّ: / حدثنا أبوعمرَ النحويُّ، عن الفضلِ بنِ الربيعِ قالَ: بينا أنا ذاتَ ليلةٍ في منزل بمكةَ إذا أتاني رجلٌ فدقَّ بابي، فخرجتُ فإذا أنا بهارونَ، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ لو أرسلتَ إليَّ حتى آتيكَ، قالَ: ويحَكَ يا عباسي، إنَّه قد حاكَ في صدْري أشياءُ، فهل تعرفُ لي أحداً مِن العلماءِ؟ فقلتُ: نعمْ، سفيانُ بنُ عيينةَ، قالَ: وهو شاهدٌ؟ قلتُ: نعمْ، فانطلقْنا إليه، فدققتُ عليه البابَ فقالَ: مَن ⦗١٠٠⦘ هذا؟ قلتُ: أجبْ أميرَ المؤمنينَ، فخرجَ مُسرعاً فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ لو أرسلتَ إليَّ حتى آتيكَ، قالَ: خذ لِما جئناكَ له، فحدثَهُ ساعةً ثم قالَ له: يا ابنَ عُيينةَ أعليكَ دينٌ؟ فقالَ: نعمْ يا أميرَ المؤمنينَ، قالَ: يا عباسي اقضِ دينَهُ.

فخرجْنا مِن عندِهِ فقالَ لي: يا عباسي ما أَغنى عني صاحبُك شيئاً، فهل تعرفُ لي غيرَهُ؟ قالَ: نعمْ، عبدُالرزاقِ الصَّنعانيُّ، قالَ: هو شاهدٌ؟ قلتُ: نعمْ، فأَتينا عبدَالرزاقِ الصَّنعانيَّ، فدققتُ البابَ فقالَ لي: مَن هذا؟ فقلتُ: أجبْ أميرَ المؤمنينَ، فخرجَ مُسرعاً فقالَ مثلَ ما قالَ سفيانُ، فقالَ: خذْ لِما جئناك لَه، فحدَّثه ساعةً وقالَ: يا عبدَالرزاقِ أعليكَ دينٌ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: يا عباسي اقضِ دينَهُ.

قالَ: فخرجْنا فقالَ: ياعباسي، ما أَغنى عني صاحبُك شيئاً، فهل تعرفُ غيرَهما؟ قلتُ: نعمْ، هاهنا فضيلُ بنُ عياضٍ، قالَ: وشاهدٌ هو؟ قلتُ: نعمْ، فأَتينا فُضيلاً، فإذا هو في غرفةٍ له قائمٌ يُصلِّي يَتلو آيةً مِن القرآنِ فجعلَ يُرددُها، فجعلَ هارونُ يسمعُ ويَبكي، وكانَ هارونُ رجلاً رقيقاً، قالَ: فدققتُ عليه البابَ فقالَ: مَن هذا؟ قلتُ: أجبْ أميرَ المؤمنينَ، قالَ: مالي ولأَميرِ المؤمنينَ، قلتُ: رحمَكَ اللهُ، أَوَمَا عليكَ طاعةٌ؟

أوليسَ قد رُويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: «ليسَ للمؤمنِ أَن يُذلَّ نفسَهُ»؟

فنزلَ ففتحَ البابَ ثم صعدَ فطفى السراجَ، ثم التجأَ إلى زاويةٍ من زوايا الغرفةِ، قالَ: فجعلتُ أجولُ أنا وهارونُ في البيتِ، فسبقتْ كفُّ هارونَ كفِّي، فسمعتُهُ يقولُ: آهٍ مِن كفٍّ ما ألينَها إِن نجتْ غداً مِن عذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فعلمتُ أنَّه سيكلِّمُه بكلامٍ نَقيٍّ مِن قلبٍ تقيٍّ، قالَ: خذْ لِما جئناكَ لَه، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، لمَّا وليَ عمرُ بنُ عبدالعزيزِ دعا سالمَ بنَ عبدِاللهِ بنِ عمرَ ومحمدَ بنَ كعبٍ القُرظيَّ ورجاءَ بنَ حيوةَ الكنديَّ، فقالَ: ويحكَم، إنِّي / قد ابتُليتُ بهذا البلاءِ فأَشيروا عليَّ، فعدَّ ⦗١٠١⦘ الخلافةَ بليةً وعدَّدتَها نعمةً أنتَ وأصحابُك، فقالَ سالمُ بنُ عبدِاللهِ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنْ أردتَ النجاةَ غداً مِن عذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ فصُم الدُّنيا وليكُن إفطارُك مِنها الموتَ، وقالَ له محمدُ بنُ كعبٍ القُرظيُّ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنْ أردتَّ النجاةَ غداً مِن عذابِ اللهِ فليكُن كبيرُ المسلمينَ عندَك أباً، وأوسطُهم عندَك أخاً، وأصغرُهم عندَك ولداً، فأكرمْ أباكَ، ووقِّرْ أخاكَ، وتحنَّنْ على ولدِكَ، وقالَ له رجاءُ بنُ حَيوةَ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنْ أردتَّ النجاةَ غداً مِن عذابِ اللهِ فأحبَّ للمسلمينَ ما تُحبُّ لنفسِكَ، واكرهْ لهم ما تكرهُ لنفسِكَ، ثم مُت إذا شئتَ، وإنِّي لأَقولُ لك هذا، وإنِّي لأَخافُ عليكَ أشدَّ الخوفِ يوماً تَزلُّ فيه الأقدامُ، فهل معكَ مثلُ هؤلاءِ رحمَكَ اللهُ مَن يأمُرُك بمثلَ هذا؟

قالَ: فبكى هارونُ حتى غُشيَ عليه، فقلتُ: ارفقْ بأميرِ المؤمنينَ رحمَكُ اللهُ، فقالَ: يا ابنَ الربيعِ، تقتُلُه أنتَ وأصحابُك وأَرفُقُ بِه أنا، قالَ: فأَفاقَ هارونُ ثم استَوى جالساً فقالَ: زدْني، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، بلَغَني أنَّ والياً لعمرَ بنِ عبدِالعزيزِ شُكيَ، فكتبَ إليه: يا أَخي، اذكرْ طولَ سهرِ أهلِ النارِ في النارِ مع خلودِ الأبدِ، فإنَّ أجلَكَ يطردُكَ إلى الموتِ نائماً ويقظان، وإياكَ أنْ ينصرفَ بك مِن عندِ اللهِ فيكونَ آخرَ العهدِ ومنقطعَ الرجاءِ، فلمَّا قرأَ الكتابَ طوى البلادَ حتى قدمَ على عمرَ، فقالَ: ما أقدَمَكَ؟ قالَ: قد خلعْتَ قلبي بكتابِكَ، لا وليتُ وِلايةً حتى أَلقى اللهَ عزَّ وجلَّ.

فبكى هارونُ حتى غُشيَ عليه، ثم استَوى جالساً فقالَ: زدْني، فقالَ: إنَّ أباكَ عمَّ المُصطفى سألَ المُصطفى عليهما السلامُ فقالَ: أمِّرْني، فقالَ: «يا عباسُ، يا عمَّ رسولِ اللهِ، نفسٌ تُنجيها خيرٌ مِن إمارةً لا تُحصيها، وإنَّ الإمارةَ حسرةٌ وندامةٌ يومَ القيامةِ».

قالَ: زدْني، قالَ: يا حسنَ الوجهِ أنتَ الذي يسألُكَ اللهُ عن هذا الخلقِ يومَ ⦗١٠٢⦘ القيامةِ، فإن استطعتَ أنْ تقيَ هذا الوجهَ الحسنَ مِن النارِ فافعلْ، ولا تصبحْ وتُمسي وفي قلبِكَ لأحدٍ مِن أهلِ وِلايتكَ غشٌّ،

فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَن ولي أُمةً مِن المسلمينَ فأصبحَ لهم غاشّاً لم يَرُحْ رائحةَ الجنة» ِ.

قالَ: رحمَكُ اللهُ هل عليكَ دينٌ؟ قالَ: نعمْ، دينٌ لربيِّ تبارك وتعالى لم يحاسبْني بعدُ، فويلٌ لي إنْ ناقَشَني، وويلٌ لي إنْ سائَلَني، وويٌل لي إنْ واقَفَني، وويلٌ لي إن لم أُلْهَمْ حُجتي، فقالَ: أُعينكَ مِن دينِ العبادِ، قالَ: لا، إنَّ عندي خيراً كثيراً / لا أحتاجُ معه إلى ما في أَيدي الناسِ - قالَ أبوعمرَ: كأنَّه يَعني القرآنَ واليقينَ والدعاءَ - قالَ: فهذه ألفُ دينارٍ استعِنْ بها على عيالكَ (وزمانك؟) وتوسَّعْ بها عليهم، قالَ: إنَّ ربِّي لم يأمُرْني بهذا، أمَرَني أنْ أُطيعَ أمرَهُ وأُصدِّقَ وعدَهُ، وقد قالَ تباركَ وتَعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٦، ٥٧، ٥٨]، ثم قالَ: يا هذا، أنا أصفُ لك طريقَ النجاةِ وأنتَ تكافِئُني بمثلَ هذا! وفَّقك اللهُ وسلَّمك، قالَ: ثم صمتَ فلم يردَّ علينا شيئاً حتى خرجْنا مِن عندِهِ، قالَ هارونُ: يا عباسي، إذا دَلَلتني فدُلَّني على مثلِ هذا، هذا سيدُ المسلمينَ.

<<  <   >  >>