للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لم تكن أفكاري قد اتسقت بعد مع وضعي الجديد، منذ نرلت في صبيحة يوم من شهر أيلول (سبتمبر) عام ١٩٣٠ بمحطة ليون بباريس، ولم تكن الأمور تقررت نهائياً في نفسي منذ فارقت قبل أسبوع أهلي، وودّعت الأقران بتِبِسَّة، وإنما الشيء الوحيد الذي قررته هو أنني لا أعود هذه المرة إلى الوراء مثلما عدت المرة الأخيرة، بعد النكسة التي أصابتني مع رفيقي (قاواو) في صيف ١٩٢٥.

عزمت على ألا أتراجع، وهذا العزم هو الشيء الوحيد الذي كان واضحاً لدي، إلى درجة نسبية لا تجعلني أخطط ما يستتبع نزولي باريس؛ بحيث لم أتوجه- عندما وضعني القطار على أحد أرصفة المحطة تلك الصبيحة- إلى الحي اللاتيني حيث ينزل كل طالب علم أو يعود بعدها يقضي الراحة الصيفية في بيته.

وإنما تذكرت زميل الدراسة ذاك، الذي كان هو الآخر قد استولى عليه حلم الآفاق البعيدة مثلي، والذي يضطجع الآن في مقبرة مدينة (سوق أهراس)، بعد أن عاد من باريس في عام ١٩٢٣ بمرض صدري، فتذكرت أنه سكن أثناء إقامته الباريسية، بحي (كورسيل) قرب تلك الحديقة الجميلة التي أعطت اسمها للحي كله، ومحطة القطار الجوفي ( Métro) بقربها؛ وتذكرت أنه كان يكاتبني من هذه الناحية فتعمدت التوجه إليها، وصرت أنتقل من فندق استُنفد تأجير غرفه إلى آخر بحثاً عن غرفة، والقدر يسوقني حتى وجدت بعيداً عن (كورسيل) في المنطقة العاشرة من باريس، غرفة مناسبة في فندق متواضع قرب باب (سان دونيس)، في شارع تؤمه بنات السوء المترقبات للزبون المتوقع في كل ذي بنطال من المارة فينادينه:

<<  <   >  >>