للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ويتظاهر فِرْعَوْن بِأَنَّهُ لَا يرفض الْبُرْهَان، وَأَنه مستعد للإذعان للحق مَتى مَا أثْبته بِبَيِّنَة مَقْبُولَة؛ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ٣.

وَهنا يظْهر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من المعجزات مَا لَا يُمَارِي فِيهِ إِلَّا جَاحد عنيد؛ فيحول الْعَصَا حَيَّة تسْعَى، وَيخرج يَده بَيْضَاء مشعة يَرَاهَا كل من نظر إِلَيْهَا بعكس مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الأَصْل من الأدمة - أَي السمرَة -.

ويتنكر فِرْعَوْن لما وعد بِهِ، ويوحي إِلَى الْمَلأ حوله أَن الَّذِي رَأَوْهُ إِنَّمَا هُوَ سحر، وَأَن مُوسَى سَاحر بارع.

وَنحن نلاحظ فِي الْآيَات الَّتِي قصها الْقُرْآن الْكَرِيم علينا أَن مُوسَى لم يواجه فِرْعَوْن بِالسِّلَاحِ، وَلم يذهب إِلَيْهِ بِجَيْش ليجبره على الدُّخُول فِي دينه، مَعَ علمه تَمام الْعلم أَن فِرْعَوْن ظَالِم جَبَّار، وَأَنه لن يسلم للحجة والبرهان، وَمَعَ هَذَا لم يكن مَعَه سلَاح إِلَّا الْحجَّة والبرهان.

ويخلف مُوسَى رجلا من آل فِرْعَوْن، يقوم فيهم دَاعيا إِلَى الله حِين همّ فِرْعَوْن أَو هدد بقتل مُوسَى، ونرى فِي دَعوته حجَجًا عقلية يذعن لَهَا الْعُقَلَاء، ويستجيب لَهَا أولو الْأَبْصَار، وَالْقُرْآن الْكَرِيم يَحْكِي لنا مَا حَاج بِهِ قومه، فَلَا نرى فِي تهديدا بِالْقُوَّةِ، أَو إرهابا بِالسِّلَاحِ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} ٤.

لقد كَانَت تِلْكَ الْحجَج كَافِيَة لإقناع فِرْعَوْن، وَإِظْهَار الْحق لَهُ بعد أَن تجاهله، وَلَكِن العناد والجحود حَالا بَينه وَبَين الْحق، فلج فِي طغيانه، وَلم يسْتَطع أَن يرد على الْحجَّة بِالْحجَّةِ، فَقَالَ قولة الْعَاجِز المفحوم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ٥.

وَيتْرك الداعية فِرْعَوْن سادرا مَعَ غيه، لاجا فِي عناده، ويلتفت إِلَى قومه مشفقا عَلَيْهِم، حَرِيصًا على هدايتهم، فيذكرهم بِمَا حدث للأمم السالفة، وَمَا ينتظرهم يَوْم الْقِيَامَة إِذا هم لم يطيعوا رَسُول الله مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَام -.

لقد تفنن الداعية فِي عرض حججه؛ فساقها مرّة فِي صُورَة اسْتِفْهَام، وَمرَّة فِي صُورَة الدَّلِيل الْعقلِيّ؛ فَأمر مُوسَى لَا يَخْلُو من أَن يكون صَاحبه كَاذِبًا أَو صَادِقا: فَإِن كَانَ كَاذِبًا فسيعود


٣ الشُّعَرَاء الْآيَة٣١.
٤ سُورَة غَافِر الْآيَتَانِ٢٨،٢٩.
٥ غَافِر الْآيَة٢٩.

<<  <   >  >>