وكان قائماً بلوازم المشار إليه ومحمله وكلفه، وخرجه في الذهاب والإياب وسائر مصرفه، حتى أرسل إليه عند إيابه إلى دمشق من العين قدراً جزيلاً، وكان له في هذه السفرة نعم الخليل وأكرم به خليلاً.
ثم لما كان خامس عشري الشهر المذكور وصلنا إلى المنزل المعروف بلوبية فصادفنا فخر الموالي معلول زاده أفندي دامت معاليه، وصل إلى المكان المذكور ونزل فيه، فاستقبل مولانا قاضي القضاة المشار إليه، ولما تلاقيا حيا كل صاحبه بالسلام عرض قصة الشوق عليه. وكانت سوابق الركب تقدمت إلى المنزل المعروف بعيون التجار مع الأحمال والخيام المتعلقة بمولانا ذي القدر الأجل، واقتضى الحال النزول في هذا المكان وقلنا لأمر ما قال الشاعر:
عرف المحل فبات دون المنزل
وكان تأخر صحبة مولانا من قسم الخيام بيت التركمان الذي اصطنعه في دمشق لنفسه، فنزل تلك الليلة فيه وأتى المولى المشار إليه لأغتنام مصاحبته ولذيذ أنسه، وكان ثالثهما حضرة المفتي حفظ الله تعالى جناب الخطير، ورابعهم خادمهم الحقير. ومضت تلك الليلة بلطيف المحادثة والمسامرة، وكان الغالب في المحل ذكر أحوال علماء الشام والقاهرة.
ثم أوصى مولانا المولى المشار إليه، في شأن أربعة انفار من طلبة العلم بمصر وأكد في ذلك عليه، بحيث أمر العبد بكتابة أسمائهم لئلا ينساهم، فعجبنا من تخصيصهم بالذكر دون من عداهم. وصار عندنا تلفت إلى المذكورين لنعلم المزية التي استحقوا بها هذا التخصيص، واستوجبوا بسببها الأفراد بالذكر والتنصيص، حتى طابقنا مسمياتهم على اسمائهم الأعلام، وعرفناهم بالكنة فّذا هم متساوو الأقدام.
ثم لما بدت غرة الفجر ولاح، وأسفر ضوء الصباح، تأهب كل لمقدمات الرحيل وتلافيها فقصد السير إلى الجهة التي هو موليها، فسار مولانا قاضي القضاة أسبغ الله تعالى نعمه عليه، لتوديع ذلك المولى إلى المكان الذي استقبله إليه. فلما أنقضى التوديع وعزما على الترحال، انطلقنا ذات اليمين وانطلق ذات الشمال. وفي آخر نهار السبت سلخ شهر شعبان بدت لنا لد، فلما قاربنا وصولها، ووافينا دخولها، ونحن سائرون في خدمة المشار إليه مشاهدون وجهة الأغر، إذ شاهدنا أيضاً هلال شهر رمضان المعظم فصدق ما قيل:
فكانا هلالين عند النظر
فعند ذلك نوينا للرحمن صوماً، وأقمنا بها يوماً ويوماً، قضاء لحق ما وجب، من مظنة المشقة والتعب.
ثم ان مولانا كان يعتني في هذا الشهر الشريف لمد الموائد، ويجريها على ما هو المعهود منه من أجمل العوائد، مشتملة من النفائس على ما تعجز عن وصفه اللسن، وفيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين:
لجودك يا قاضي القضاة مزيةٌ ... على السحب لا تخفى على من له لب
فأول جود الغيث قطر مبددٌ ... وغيث نداك الجم أوله سكب
ومن حينئذ توارد طلبة العلم المصريون لاستقبال مولانا، وأتوا إلى خدمته الشريفة رجالاً وركباناً، وصاروا من بعد ذلك يتعاقبون، وأقبلوا " من كل حدب ينسلون ".
ثم لما كان اليوم المسفر فجره، عن ثالث رمضان المعظم قدره، قصدنا مشهد سيدنا زكريا ويحيى عليهما السلام بنية الزيارة، ومشهد معاذ وبقية الأماكن المشهورة الأنارة، ودعونا الله تعالى بأدعية مقبولة، وبالإجابة أن شاء الله تعالى موصولة. ثم وجهنا الوجه إلى القدس الشريف لاستباق الخيرات، وللقيام بحق ما يتعين في تلك الأماكن الشريفة من الزيارات. فلما أكدنا بلا استدراك أن المزار قريب، انفرد العبد مع حضرة مولانا المفتي من غير رقيب، وسرنا مصاحبي السرور والاستبشار، متمثلين بقول القائل:
وأبرحُ ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار