فبينما نحن نتوارد طرف الأخبار، ونتطارحُ ملحَ الاسمار، اذ تطفل شخص من طلبة العلم المصرين راكب حماره يلقبُ بالجمل، وادخل نفسه في البين واعترض اعتراض الجعلَ، قصد ان يدلي دلوه في هذه الحياض، ويفصلَ بين وَصْلِ ما نتطارحه بجملِ الاعتراض، وكنّا نستثقل ظلَّه، ونستبرد طله، لانه اذل اورد كلاماً غير مستقيم، ما نراه الاّ في ليلِ الوهم يهيم فمسنا من شكاسة مصاحبته ما اورث العناء، وكاد لسانُ الحال بل اسانهُ المقال ان يقولَ له ارحلْ لا تقيمن عندنا. فاستطرد الكلام الى مدح دمشق الشام فاوردنا شيئاً من الشواهدِ على لطفها وتفصيلها على سائر الامطار، وادرنا في ذلك ما بيننا مُدامَ رائقِ الاشعار. فاورد الفقير في اثناء المصاحبة، وانشد في ذلك المقام بالمناسبة، الابيات المشهورة في مدحها ومدح جامعها، والمقاطيعَ الواردةَ في معنى ذلك المطربةَ لسامعها، الى ان انتهى الى قول ابن نباته:
ارى الحسنِ مجموعاً بجامع جلقِ ... وفي صدره معنى الملاحةِ مشروحُ
فان يتغالى بالجوامعمعشر ... فقل لهم باب الزيارة مفتوح
فتعرض الرجل المصري للاعتراض ونصب نفسه غرضاً للسهام، وقال يا مولانا ما جلق الا بضمخّ الجيم وفتح اللام. فقلت له: ليس الامر كما وهت، والصوابُ خلاف ما فهمت، لان علماء اللغة قرروا، ونقلوا في كتبهم وحرروا، ان في مادة الجيم واللام مكسورتين بلا خلاف. فكان يتكلمّ بما لا يشفي الغليل، وطلب من الفقير بعد نقلة كلامَ اهلِ اللغةِالدليل، وقال: هذا خلافُ المشهور في ألسنةِ الانام، فقلت له: نعم هومن اغلاط مثلك من العوام. ثم أنه نزل عن حماره وساقة امامه، وحاول ان يصحح بالغلط كلامه، فقصد مولانا المفتي الى الهزء به والتبكيت، واراد الزامه باللطف الى حمارك، فانّ ماذرة مولانا كلامٌ مسلم ليس عليه غبار، وما مثل غلطك الا كمثل الحمار، فان العوام تضم الحاء منه وهي مكسورة، وامثال ذلك كثير من الاغلاط المشهورة، فاستحسن الفقير منه هذا المثال، وقال له: لله درك يا مولاي من مفضال، وفهم والمح اليه من قصد الازدواج، وطفح علينا السرور والابتهاج، فلما لاحظنا تاثر المذكور من ضرب مولانا له بهذا المثل، وانحرف مزاجه من ايراده وانفعل، طفقنا نخاطبه المثلا، وقلنا له تسليةً: ان الله لا يستحي ان يضرب مثلا واكنت اخذت مناّ السرى فلوينا الاعنة لقصد الاستراحية، وتلطفنا مع المذكور وعاملناه معاملة اهل السماحة، واوينا الى اشجار ذات ظل ظليل، وتلونا عسى ان يهدينا ربنا الى سواء السبيل، واستمر بنا الحال مع المذكور برهة من الزمان قعوداً، وشرعنا في التئام ما حصل من جراحات تلك السهام خشبية ان يكون حقوداً، وتبينا الكلام عما كنا فيه من المصاحبة، وقصدنا الى تلوين الخطاب إرادة للملاطفة والمداعبة، إذ بمثل ذلك تطوى شقة الأسفار، وتزول موجبات الأتعاب والأكدار. ثم إلتفتنا إلى صاحبنا الشيخ الفاضل مجموع الفضائل الشيخ علي المالكي بلطف خطاب وتنبيه، وقلنا له أن هذا الشيخ بلديك وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. فبين لنا البتة مناسبة وضع هذا القلب، وقص علينا في وقتنا هذا ما نقضي منه بالعجب، فقال: يا موالينا لا تحكموا علي بالتزام ما لا يلزم، ولا تكلفوني إلى أن أخبر بما لا أعلم، على أن بعض الأعلام قد يغفل حال الوضع عن مناسباتها وينبغي أن تلحق هذه القضية بأخواتها، وما هذه بأول قارورة كسرت في الإسلام، فإن لهذا الأسم مسمى أيضاً بدمشق الشام، فقلنا له: يا مولانا أن ما ذكرته كلام محقق، ولكن قد يفرق بينهما بأن ذاك مقيد وهذا مطلق، فلما رأينا في لفظ المقيد من حسن التوجيه، ما لا يخفى على الفاضل النبيه، كتب الفقير في معنى ذلك حسب ما أقتضاه الحال، ثلاثة أبيات فقال:
قسم علي الجمل الذي في جلق ... جملاً بمصر وفي الحقيقة يفرق
إن الذي في الشام جاء مقيدا ... بالطبل إذ يدعى وهذا مطلق
واللفظ أقوى ما يكون إذا أتى ... فيه الخصوص لنكتة تتحقق
ولعل هذا الحال، وقع في المحل حيث وجب له عدم الإنتقال، وهذا هو الحال المقيد لصاحبه بلا إشكال، سبحان الله، والشيء بالشيء يذكر.