للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فلما نظر الخليفة الجواب بعث إليه به وقال غدا يأتي النعى الوزير فما أصبح الصباح حتى جيء بنعى الوزير وذكرت له بهذه الحكاية ما وجدته ببعض التآليف المعتمدة وذلك أنه مر بعض الملوك بغلام يسوق حمارا غير منبعث وقد عنف عليه في السوق، فقال يا غلام أرفق به فقال له الغلام الرفق به مضرة عليه، قال: وما مضرته قال يطول طريقه ويشتد جوعه وفي العنف به إحسان إليه يخف حمله ويطول أكله، فأعجب الملك كلامه فقال له: قد أمرت له بألف درهم، فقال رزق مقدور وواهب مأجور، وقال: وقد أمرت في حشمي، قال: كفيت مؤنة فرزقت بها معونة، فقال: لولا أنك حديث السن لا ستوزرتك، فقال: لم يعدم الفضل من رزق العقل، قال: فهل تصلح لذلك، قال إنما يكون الحمد أو الذم إلا بعد التجربة، ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها، قال: فاستوزره فوجده ذا رأي صائب ومشهورة تقع موقع التوفيق، ومن ظريف الوجادة وغريب الاتفاق أني لما دخلت الإسكندرية قافلا وقعت عيني ببعض الجدران على هذين البيتين:

إذا ضاق بي صدري استعنت بخالق ... قدير على تيسير كل عسير

فبين انطباق الجفن ثم ارتفاعه ... فكان أسير وانجبار كسير

ثم تنقلت خطى يسيرة وإذا بحائط آخر مكتوب عليه ما نصه:

ما رأينا ضربة من بطل ... بحسام قطعت ألف قلم

بل رأينا نقطة في كاتب ... بمداد نكست ألف علم

ثم دخلت المدرسة السراجية المذكورة آنفا فرأيت بأعلى باب بيتي الذي سكنته فيها ما نصه:

عليك السلام الله يا خير منزل ... رحلنا وودعناك غير ذميم

فان تكن الأيام فرقن بينا ... فما أحد من صرفها بسليم

ثم تأملت فإذا بعده بخط آخر ما نصه:

تركنا همنا ثم ارتحلنا ... كذا الدنيا نزول وارتحال

وما دهر على أحد بباق ... ولا يبقى على الإنسان حال

ثم ألتفت فإذا أمامه بخط آخر ما نصه:

قد حصرنا في ذا المكان وغنينا ... وكذا الدهر غيبة وحضور

قد حضرنا في ذا المكان وغبتم ... وقرأنا من بعده ما كتبتم

وذكرنا كم بكل جميل ... فاذكرونا بمثله أن حضرتم

فعجبت لدار تدين برحيل وتنبئ عن سفر طويل وتفرق بين كل خل وخليل وكتبت من نظمي هناك بطرف دامع وقلب عليل:

قد استلم لنا الدموع نجيعا ... وذكرنا كم بخير جميعا

وسألنا يا حاضرين دعاء ... واجترعنا الفراق والتوديعا

وكنت لما صدرت من الشام وخرجت عن أقطارها وسرت في بعض قفارها أداني السير إلى أطلال عالية بالية فوجدت لرؤيتها كل الوجد وقربت إليها من البعد، فإذا ببعض تلك الجدران مكتوب عليها بالفحم هذان البيتان:

ولقد ندمت على تفرق شملنا ... أسفا ففاض الدمع من أجفان

ونذرت نذرا أن ظفرت بعودة ... لا عدت أذكر فرقة بلسان

فعلمت أن كاتبهما مثلي بعيد الدار، متصرف بين يدي الأقدار قد سئم السرى وشاقه النسيم متى سرى، فدعوت الله تعالى في جمع شملي وشمله ورد كل غريب إلى وطنه وأهله وكتبت هنالك من نظمي على شاكلته وشكله:

ولقد جرى يوم النوى دمعي دما ... حتى لقال الصحب انك فان

والله إن سمح الزمان بقربنا ... لكففت من ذكر النوى وكفاني

وقرأت بخط الإمام أبي الحسن علي بن سعيد قال: قرأت بحائط التربة التي فيها معروف الكرخي الزاهد بالجانب الغربي من مدن بغداد:

وما ضرني إلا الذين عرفتم ... جزى الله خيرا كل من لست أعرف

وتحت هذا لبيت: رجل غريب، طاف بالأرض فلم يظفر بحبيب ووجدت في مقابلة ذلك بخط آخر:

لعمرك ما انتفعت بغير خل ... له عندي الذي ألفيه عنده

يراعني فيصبح عبد قصدي ... كما أمسى إذا ما احتاج عبده

<<  <   >  >>