للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ومواطن معراج لنبي محمد ... وقد هب غمض النوم في الأعين النعس

وموطئ أقدام الرسالة والهدى ... وقد لان صلد الصخر من ذلك اللمس

أيا مسجد قد بارك الله حوله ... وعظمه في العرب والعجم والفرس

ويا أربعا قد أظهر الله فضلها ... وكرمها في اليوم والغد والأمس

رحلت وفي قلبي لأجلك لوعة ... فلم يبلها مني الزمان ولم ينس

وأزعجني عنك النوى وهي دائما ... تعاملني في جمع شملي بالعكس

وعندي إلى لقياك أي تشوق ... به اغتدي دهري وألحد في رمس

عسى عودة أو زورة تنقع الظما ... وتخلع عني للظما وارس اللبس

وإن كانت الأخرى ولم تك أوبة ... فأهدي سلامي في القراطيس بالنفس

وكان خروجنا من القدس الشريف في عشى يوم الجمعة أول يوم في صفر من العام المذكور. وسرنا والعيشة تجود لزمامها، وذكاء تتشحط بدمائها، والفلا تذوب من كدنا خجلا، والنجم يرعد من سرانا وجلا، إلى أن وصلنا إلى مدينة الرملة، في عشى يوم السبت من غد اليوم المذكور، والأصيل قد قضى، ودين اليوم قد انقضى:

والشمس تنثر زعفرانا في الربى ... وتفت مسكتها على الغيطان

فنزلنا بها بمدينة غضة المنظر، حسنة المخبر، ممتعة بالروض لناعم، والنسيم الأعطر، أحسن المدائن، أزقة وأسواقا، وأكثرها فواكه وأرزاقا. وأملحها بياضا وإشراقا، وأبدعها اتصالا بالبساتين والتصاقا، قريبة من البحر، بعيدة من الغور كثيرة المساجد والخير، معتدلة الهواء، سامية البناء، واسعة الفناء، ساكنة المساكن، مكينة الأماكن، لائحة المباهج، واضحة المناهج، رائقة المنازه، رائعة المنازل، مرنة الرباب، معشبة الشعاب، هامرة السحاب، عاملة الجناب، سافرة المطالع، افرة الصنائع، سابغة المدارع، سائغة المشارع، صافية الزلال، ضافية الظلال، سارة الأسارير، زاهرة الأزاهير، معقودة الحبا، معهودة الربا، جليلة العلا، جميلة الحلا، جائشة الجيوش، معرشة العروش، فيها جنات من نخيل، وأعناب، طوبى لمبصرها وحسن مئاب، دخلت بداخلها المسجد الجامع الكبير حيث الخطبة الكبرى، والجماعة العظمى وهو المشتهر بالجامع الأبيض له صحن كبير جدا فيه أشجار وأطيار وجب وآبار فيها ماء كثير عذب نمير، وفي وسط الصحن مغارة عظيمة كبيرة تفضي إليها أدراج كثيرة، قد قامت على أقواس محنية وأرجل مختلفة مبنية، ذكر أن فيها جماعة عظيمة من الأنبياء مدفونين يعدهم النساك بالمئين، زرناها لما يوثر عنها من البركات والأعمال بالنيات وعلى باب المسجد المذكور تاريخان منقوشان في الرخام، وقدمهما وأخصرهما ما نصه:) بسم الله الرحمن الرحيم (هذا ما أمر بعمارة هذا المسجد الجامع المبارك إياس عبد الله بن جهة الأمير علم الدين قيصر رحمه الله ورحم من ترحم عليه، سنة ست ثمانين وخمسمائة وخرجنا منها عشية يوم الأحد الثالث من صفر المذكور، وسرنا والشمس قد عصفرت أبرادها، وردنا في العين الحميئة إيرادها، وبتنا نركب ظهر لسرى ونقطع بالذيل عمر الكرى، حتى سفرت الجونة عن نقابها، ونكصت النجوم على أعقابها، وأحرقت فحمة الليل عنبر لصباح، وخبا من النجوم الزهر كل مصباح، وهتف داعي العرفان، وحيعل المثوب بالأذان، وأصبحنا على عسقلان في صبيحة الاثنين من غد اليوم المذكور، وهي مدينة كبيرة، مفروشة بالرخام عجيبة وكانت دار إبراهيم عليه السلام وفيها آثار النمرود من كنعان، فسرحنا بمسرح آمال، جنتان عن يمين وشمال، روضات قد أينعت فيها الأزهار، وانبعثت الأعين وعنت الأطيار، فحللناها بلدا أقفر وخرب، وأكل الدهر على محاسنها وشرب، وترك ساحته كدرامية بالعلياء، وغادره منقض الفناء، متقلص الأفياء فأطلت الركوع والسجود في ذلك المسجد الحافل، وظلت أتبرك بما تضمنه من الآثار الجلائل، وجعلت أجول معتبرا بين تلك المنازل وأتمثل بقول القائل:

ما للمنازل لا نجبن حزينا ... أصممن أم بعد المدى فبلينا

دمن تقادم عهد هن على البلا ... فلبثن من بعد الشهور سنينا

من مدينة مأثورة الفضل قليلة النظير في الحسن عديمة المثل لم يبق منها إلا رسومها الواهية وأطلالها العالية البالية، وأزقتها الخاوية الخالية:

طلول إذا دمعى شكى البين بينها ... شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

<<  <   >  >>