للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فالأعلام طوامس ووفود الأبواب روامس والمأموم بالإمام مزجور والدار خالية، والباب مهجور، ستغفر الله إلا روضها الناعم، وأرضها المنسابة المذانب انسياب الأراقم، وانتظام الشجر والبحر، والنسيم الزدري بعنبر الشجر، فإن المحاسن في ذلك راقت وصفا اتسقت رصفا، والأمواج تنعطف صفا تنقصف قصفا وتأتي خاضعة إلى البر فتقبل منه كفا وتتيه آونة فتنعطف عنه عطفاً وتتثنى عن الإلمام به عطفا:

تتكسر الأمواج فيه فتتثنى ... بيد الصبا مبيضة أعطافها

فكان شهب الخيل قد غرقت به ... فطفت على أمواجه أعرافها

فارقناها يصاحبنا الهواء الرطب ونسيمه، والأرج العنبري وتسنيمه، ولنفس النجدي الذي هو في الصحة شقيقه وقسيمه، وقد أحدقت البساتين بها أحداق الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، وامتدت بطحتها الخضراء امتداد البصر فكل توقع لحظة لجهاتها نضرته اليانعة قيد النظر، وما زلن نسير على بساطتها الأخضر، وأديمها الأنضر، إلى أن وفينا مدينة) غزة (في ظهر يوم الاثنين الرابع لصفر المذكور فأقمنا بها إلى خرجنا منها في عشى يوم الثلاثاء خامس صفر المذكور وقد تضخمت صفحات الربى بخلوق الأصيل وأرزمت المطايا إلى الدعة أرزام الفصيل وسرنا نحث في الرحيل ونصل المساء بالصباح والغدو بالأصيل إلى أن وصلنا إلى) قاطية (والظلام يزملنا بنجاده واليباب يرفعنا إلى ظهور روابيه من نجاده في نصف ليلة الأحد العاشر لصفر المذكور وهي بليدة عجيبة منقطعة في ذلك الرمل غريبة جدبها خصب وشيبها شبيبة، يمتد بين يديها من كلا جنبيها رمل أفيح أغبر لا ماء ولا شجر ولا ظل ولا ثمر قد نبذت بالعراء، ووضعت في وسط الصحراء، فهي تشتكي ظماء وتستقي على البعد ماءها، لكنها حسنة المنزع، متسعة المربع، تقبل من لحسن بثمان وتدبر بأربع لولا ظلم نهيها وأمرها، وشوب حلوها ومرها، وعظم ضرها للوارد وقهرها، تفتش أمتاعه، وتنهب رقاعه وتستلب من بين يديه، فلا بيعه ولا ابتياعه وفي مثلها يغضب الحليم فيحذر، وينفث المصدور فيعذر، قال بعض العلماء بلاد الحجاز آخرة ولا دنيا، ومصر دنيا ولا آخرة والشام دنيا وآخرة وقاطية لا دنيا ولا آخرة، ولما رأيت هبوب ريحها، ودبيب تباريحها، وتصريف صروفها، وتحريف حروفها، وتأملت الخائن فيها فإذا هو مؤتمن والتمست العدل فيها فوجدته كالماء في دار عثمان، له ثمن، زويت وجهي عن محاسنها، وساويت بين صفوها وآسنها، ورميت بحبلها على غاربها، وضربت وجوه مشارقها بمغاربها وكرهت علها ونهلها، وتركتها وتركت جملتها لها، وخرجت منها في عشى اليوم المذكور، والشمس مرضى أصائلها، والربا معصفرة وصائلها، وسرنا نطوي مسافة البيداء، طي الرداء، ونطير في جو الرجاء بجناح النجاء، إلى أن وصلنا إلى مصر فنزلنا بها في ليلة يوم الخميس الرابع عشر من صفر المذكور قد أظلنا الليل. كظهر الفيل، التف جنحه باهابه، وافتر فجره عن نابه وكأن سماءه سندس عليه نثير تفاح، وكأن بدره يفتش عن صحبه بمصباح، ومر يحدوه السير إلى أن لف الثريا في ملاءته الفجر، فوسنا سنة النصب وهدأنا هدأة الوصب، فما صحت العيون من نشوة رقادها، إلا لتغريد الطير في أعوادها، وذكاء قد أذكت قبسها علينا، وسفرت فكشفت عن صبحتها إلينا، ونسيم الروض يروي الطيب ويسند، ويعض النبلاء يردد وينشد:

بتناوبات الورد يضربه الندا ... في ظل أخضر بارد الأنداء

والليل يخفى نفسه في نفسه ... والصبح كشاف لكل غطاء

وكانما الإصباح ينشر مهرقا ... أثر المداد به من المساء

فأجابه صاحبه على إنشاده كأنه ما فطن لمراده:

قم ترى الليل كيف رق دجاه ... وبدا طيسانه ينجاب

وكأن الصباح في الأفق بار ... والدجا بين مخلبيه غراب

وكأن السماء لجة بحر ... وكأن النجوم فيها حباب

فعجبت من ذكاء المنشدين، وأديت بعد الطهارة ما حل من الدين وتقاضينا جواب القطعتين فأنشدتهما لابن جرج رضي الله عنه:

ربى تروق وروضات مزخرفة ... وسابح مد بالهطالة الهتن

وللنسيم على أرجائه حبب ... يكاد من رقة يخفى على الغصن

وأنشدتهما لابن صارة رضي الله عنه:

تأمل حالنا والجو طلق ... محياه وقد طفل المساء

وقد جالت بنا عذراء حبلى ... يجاذب مرطها ري رخاء

<<  <   >  >>