إلى آخر القصيدة التي ذكر فيها مارية جدتهم امرأة ثعلبة بن عمر، وهي بنت شمر بن غش ملك حمير، وهي أم الحارث الأكبر. وذكروا أن ابنه عمرو بن الحارث الأكبر وصى ابنه فقال شعرا. وذكر أن عمر حفظ وصية أبيه الحارث وثبت عليها، وملك ما ملك أبوه من أرض الشام، وقبائل العرب، وذكروا أنه رسم لنفسه في كل ليلة جارية بكرا لا بد له منها من السبايا، التي تصيبها خيله المغيرة على العصاة، فلم يزل ذلك دأبه حتى وقعت عنده في السبي أخت عمر بن الصعق العدواني، قال فلم يشعر عمرو بن الحارث وقد أمر أن يؤتى بها، إلا وفتى يقرع باب مجلسه الذي هو فيه، ففتح عمرو الباب وأشرف، وإذ هو بفارس يقول شعرا:
يا أيها الملك الجسور ألا ترى ... صبحا وليلا كيف يجتمعان
وأعلم وأيقن أن ملكك زائل ... وأعلم بأن كما تدين تدان
قال فنادى عمرو بن الحارث، وقال له قد آمنك الله فيمن كان لك عندي، أو من كافة الناس فيمن وقع لهم من السبايا، ثم أمر ألا تبقى سبية إلا وحملت وردت إلى أهلها، وأطلق لها ما كان في الأسرى من أهلها.
ثم إن عمرو بن الحارث وصى ابنه الحارث الذي تسميه العرب الحارث الأعرج ويقال: إنه كان لعمر كاهن يخبره بالكوائن، وينذره ويحذره، ثم إن الحارث الأعرج حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وملك بعده ابنه عمرو بن الحارث ما كان يملكه من البلاد، وقبائل العرب، ثم إن الحارث الأعرج وصى ابنه أبا منذر عمرو بن هند المحرق في أبيات شعر. ثم إن عمرو بن هند، ابن عوف الشيباني حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وملك ما ملك أبوه من بلاد العرب وغيرها، وسمى محرقا وذلك أن خاله وكان مسترضعا في بني تميم قتله رجل من البراجم، والبراجم بطن من تميم فخرج إليهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم أخذ منهم مائة رجل أحياء فأحرقهم في النار؛ فلذا سمي محرقا. ذكره الفرزدق التميمي في شعره، والطرماح الطائي في شعره. وذكر أن عمرا وصى ابنه الأهيم في أبيات لم نذكرها، ثم إن الأهيم حفظ وصية أبيه وثبت عليها، وعمل بها، وملك ما كان يملك أبوه.
ثم إن الأهيم وصى ابنه جبلة فقال: يا بني إنك لمالك الشام بعدي، وصاحب أمري دون ولدي، وإنك لفي أوان تملك هذا الأمر الذي أوتيناه دون غيرنا، فإذا رأيت ذلك فانظر لنفسك ما يزينها، ولقومك وما يصونهم.
وكان جبلة لك يزل ملكا مطاعا في قومه غسان، يجيء غليه خراج الشام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبلة ملك الشام، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبلة ملك الشام، وجلس أبو بكر رضي الله عنه وأقام في الخلافة ما أقام، وجبلة ملك الشام، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه أسلم جبلة وأقبل إلى المدينة في خمسمائة فارس من ملوك قومه، وهم أصحاب التيجان، وسار حاجا حتى دخل مكة المشرفة، وكان يطوف بالبيت ذات يوم من أيام الحج، وعليه إزار ورداء، فوطأ إزاره رجل من فزارة، فلطمه جبلة لطمة هشم بها أنف الفزاري. فأقبل ودمه يسيل على صدره حتى وقف على باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، انصفني من هذا الجبار؛ فإنه لطمني وتركني على هذه الحالة؛ فقال عمر ما تلطم الرجل؟ فقال له جبلة: إنه وطأ إزاري، فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، إما أن تفدى عنه، أو تعطيه اللطمة. فقال جبلة لا أفعل شيئا مما قلت، وهم أن يثير الفتنة بينه وبين عمر، فدخلوا عليه فكلموه فسكن بعض ما كان به، وسأله الناس ألا يجعلها فتنة، فأجابهم إلى ذلك، فلما كان في بعض الأيام خرج ومضى إلى الشام، ثم ارتحل إلى بلاد الروم هو ومن تبعه من غسان ثم دخل على هرقل ملك الروم وهو مغضب وتنصر هو ومن تبعه، ثم ندم على ذلك من تركه الإسلام ودخوله في النصرانية:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكلفني منها لجاج ونخوة ... نبعت لها العين الصحيحة بالعور
ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفزة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
وبنو غسان بطون، وإنما سموا غسان باسم ماء بالمشل يقال له غسان فمن شرب منه من الأزد فهو غساني، ومن لم يشرب منه فليس بغساني.