يا بني قد انتهى إليك ما كان من وصية جدك سبأ بن يشجب، وما أفترق عليه الاثنان يوم الوصية والقسمة، وهما: جداك حمير وكهلان فلا تجرين أمراً إلا ما جرى به عليه الاثنان من لدنهما إلى هذه الغاية. وأوصى بذلك من صلح لهذا الأمر من ولدك. فأوصيك بالثبات على ما وجدتني عليه من العدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء، والبعد عن إيذاء العشيرة والتحبب إليها، فما المرء إلا بقومه وإن عزّ وعلا.
ثم إن عريب ولي الأمر بعد أبيه وثبت على وصيته وعمل بها وأجراهم عليه، ثم إنه وصى بنيه وكانوا أربعة: صباح ونجادة وأبرهة وقطن، فقال لهم: يا بني إني وجدت الشرف والسؤدد والعزة والنجدة والطاعة والملك يدور على ستة أشياء، يا بني وجدت السؤدد لا ينال إلا بالكرم، ولا السؤدد لمن لا كرم له، وإني وجدت العز في العدد حيث كان، ولا عز لمن لا عدد له، ولا عدد لمن لا عشيرة له، وإني وجدت النجدة في الأيادي ولا نجدة لمن لا أيادي له، وإني وجدت الطاعة في العدل ولا طاعة لمن لا عدل له، وإني وجدت الملك في إصطناع الرجال ولا ملك لمن لا اصطناع له، يا بني: احفظوا وصاتي ولا تعصوا قطنا أخاكم فإنه خليفتي عليكم، ووليّ الملك بعدي، قال ثم إن قطنا ولي الملك بعد أبيه وسار في الناس بسيرته وسيرة أسلافه وقلّد الملك في حياته ابنه الغوث، فقال له يا بني: إني لم أقلدك الملك رغبة عنه ولكني أردت أن أقف على سيرتك في الناس وسياستك في الملك، وأن أعلم كيف طاعتهم لك، كي لا أخرج من الدنيا ولي غصة من ذلك في أمرك وأمر الناس. يا بني أوصيك باخوانك أن تفعل لهم ما فعلت لك، وأن تبذل لهم نصيحتك، وتخفض لهم جناحك، وأسألك أن تفعل بعشيرتك ما سألتك أن تفعل لإخوانك، فما الراحة إلا في الأصابع، والساعد بالعضد.ثم إن الغوث بن قطن ولي الملك في حياة أبيه وبعد وفاته دهرا طويلا، وكان من أحسن الناس سيرة وأثبتهم على سنن آبائه وأجداده، ثم إن ابنه وائل بن الغوث ولي الملك بعده وكانت وصية الغوث لإبنه وائل هذه: يا بني إن الملك دار بناها الله تعالى لأسلافك فعمروها بالعدل والإحسان، وكذلك ورثتها ممن قبلي وكذلك اخلفها لك بعدي بعمارتها؛ فأعمرها بما كان يعمرها أسلافك. وأعلم أن الدار دار ما بنيت حيطانها وشيدت أركانها، ولم يقع في شيء من بنائها ثلمة، فإن الثلمة يتبعها مثلها. فأوصيك بالرعية خيراً. ثم إن وائل بن الغوث بن قطن ولي الملك بعد أبيه وساس الملك سياسةً حمدها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل ولي الملك بعد أبيه فسار في الناس بسيرة أسلافه وأجداده، وعبد شمس هذا جد بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن معاوية بن شداد بن قطاط بن عمرو بن عبد شمس. فما من هؤلاء أحد إلا ملك ما ملك عبد شمس وأبوه من قبله، وأخبارهم تطول على الشرح. وعمرو بن معاوية المعروف بابن علاف بن شداد بن المقطاط. ثم انتقل الملك من هؤلاء إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن سهل بن عمرو بن قيس ابن معاوية بن يشجب بن عبد شمس بن وائل بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بم الهميسع بن حمير الأكبر. وذكر أن زرعة حسنت سيرته في الناس حين ولي الملك وكذلك ابنه شداد بن زرعة، وإن زرعة وصى ابنه شداداً فقال له: يا بني: لو كان ملك يستغني بثاقب رأيه دون آراء الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته، وعلى ما تقدم من التجاريب لأسلافه مما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من آباءه وملوك قومه وسنن الماضين، لكنت أغنى الناس عن مشاركة الآراء ومشاركة الأقيال ووصية الموصين. على أنه لا بد للملك من معين يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقل عليه من ذلك، ولا بد للولد من وصية الوالد قلّت الوصية أو كثرت.