الله عَنْهُمَا:"فَلَمَّا تمكن التَّوْحِيد من قُلُوبهم واضمحل الشّرك وَاسْتقر الدّين أذن فِي زِيَارَة يحصل بهَا مزِيد الْإِيمَان وتذكير مَا خلق العَبْد لَهُ من دَار الْبَقَاء فَأذن حينئذٍ فِيهَا فَكَانَ نَهْيه عَنْهَا للْمصْلحَة وإذنه فِيهَا للْمصْلحَة. وَأما النِّسَاء فَإِن هَذِه الْمصلحَة وَإِن كَانَت مَطْلُوبَة مِنْهُنَّ لَكِن مَا يقارن زيارتهن من الْمَفَاسِد الَّتِي يعلمهَا الْخَاص وَالْعَام من فتْنَة الْأَحْيَاء وإيذاء الْأَمْوَات وَالْفساد الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى دَفعه إِلَّا بمنعهن مِنْهَا أعظم مفْسدَة من مصلحَة يسيرَة تحصل لَهُنَّ بالزيارة، والشريعة مبناها على تَحْرِيم الْفِعْل إِذا كَانَت مفسدته أرجح من مصْلحَته، ورجحان هَذِه الْمفْسدَة لَا خَفَاء بِهِ، فمنعهن من الزِّيَارَة من محَاسِن الشَّرِيعَة". اهـ، من كَلَام ابْن الْقيم مُلَخصا.
وَقَالَ شَيْخه شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية رَحمَه الله تَعَالَى:"إِن الْخطاب فِي الْإِذْن فِي قَوْله: فزوروها لم يتَنَاوَل النِّسَاء فَلَا يدخلن فِي الحكم النَّاسِخ، وَالْعَام إِذا عرف أَنه بعد الْخَاص لم يكن نَاسِخا لَهُ عِنْد الْجُمْهُور فَكيف إِذا لم يعلم أَن هَذَا الْعَام بعد الْخَاص، إِذْ قد يكون قَوْله: "لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوارات الْقُبُور" بعد إِذْنه للرِّجَال فِي الزِّيَارَة يدل على ذَلِك أَنه قرنه بالمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج، وَمَعْلُوم أَن اتخاذها الْمنْهِي عَنهُ مُحكم كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَالصَّحِيح أَن النِّسَاء لم يدخلن فِي الْإِذْن فِي زِيَارَة الْقُبُور لعدة أوجه:
الأول: أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "فزوروها" صِيغَة تذكير وَصِيغَة التَّذْكِير إِنَّمَا تنَاول الرِّجَال بِالْوَضْعِ وَقد تتَنَاوَل النِّسَاء أَيْضا على سَبِيل التغليب لَكِن هَذَا فِيهِ قَولَانِ.
الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل الْإِذْن للرِّجَال بِأَن ذَلِك يذكر الْمَوْت ويرقق الْقلب ويدمع الْعين وَمَعْلُوم أَن الْمَرْأَة إِذا فتح لَهَا هَذَا الْبَاب أخرجهَا إِلَى الْجزع وَالنَّدْب والنياحة لما فِيهَا من الضعْف وَقلة الصَّبْر، وَإِذا كَانَت زِيَارَة النِّسَاء مَظَنَّة وسبباً للأمور الْمُحرمَة وَالْحكمَة هُنَا غير مضبوطة فَإِنَّهُ لَا يُمكن أَن يحد الْمِقْدَار الَّذِي لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِك وَلَا التَّمْيِيز بَين نوع وَنَوع، وَمن أصُول الشَّرِيعَة أَن الْحِكْمَة إِذا كَانَت خُفْيَة أَو منتشرة علق الحكم بمظنتها فَيحرم هَذَا الْبَاب سدا للذريعة كَمَا حرم النّظر إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة وكما حرمت الْخلْوَة بالأجنبية وَلَيْسَ فِي ذَلِك من الْمصلحَة مَا يُعَارض هَذِه الْمفْسدَة فانه لَيْسَ فِي ذَلِك إِلَّا دعاؤها للْمَيت وَذَلِكَ مُمكن فِي بَيتهَا", إِلَى أَن قَالَ رَحمَه الله:"إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى تدفن فَلهُ قيراطان" مَعْلُوم أَنه أدل على الْعُمُوم من صِيغَة التَّذْكِير الْمُتَقَدّمَة فَإِن لفظ (من) يتَنَاوَل الرِّجَال وَالنِّسَاء بِاتِّفَاق النَّاس، وَقد علم بالأحاديث الصَّحِيحَة أَن هَذَا الْعُمُوم لم يتَنَاوَل النِّسَاء لنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُنَّ عَن