وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية رَحمَه الله تَعَالَى: وَقد قرن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعننة الزائرات بلعنة المتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج، وَمَعْلُوم أَن اتِّخَاذ الْمَسَاجِد والسرج، لم يقل أحد من الْعلمَاء بِجَوَازِهِ فَكَذَلِك مَا قرن بِهِ من لعنة الزائرات والله أعلم.
وَالثَّالِث: أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لَيست كَغَيْرِهَا من النِّسَاء لما تحلت بِهِ من الْآدَاب اللائقة بزيارة الْقُبُور لقُوَّة إيمَانهَا وعظيم صبرها وَكَمَال عقلهَا ووفور فَضلهَا، قَالَ الله تَعَالَى فِي عُمُوم نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}(الْأَحْزَاب / ٣٣) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: "كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم ابْنة عمرَان وآسية وَأَن فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام" أما غَيرهَا من النِّسَاء فَإِنَّهُ لَا يُؤمن مِمَّن زارت الْقَبْر لجهالتها وَضعف عزيمتها وَقرب جزعها أَن ترتكب شَيْئا من الْمَحْظُورَات كالنياحة والجزع والتعديد خُصُوصا فِي زَمَاننَا هَذَا الَّذِي انْضَمَّ إِلَى مَا ذكر كَثْرَة تبرج النِّسَاء وارتكابهن فتْنَة العري والتبرج والاختلاط، وَمن لَهُ غيرَة فِي الدّين وبَصِيرَة بقواعد الشَّرِيعَة عرف وجاهة مَا ذكر والله الْمُسْتَعَان.
الرَّابِع: حمل سؤالها للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعليمه إِيَّاهَا على أَنَّهَا مبلغة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمثل هَذَا فِي السّنة كثير فِي تعلمهَا وَأَخذهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تخبر بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رضوَان الله عَلَيْهِم مَعَ عدم شرعيته فِي حق النِّسَاء. قَالَ الزَّرْكَشِيّ- فِي الْإِجَابَة لإيراد مَا استدركته عَائِشَة على الصَّحَابَة- أخرج مُسلم عَن دَاوُد بن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص عَن أَبِيه أَنه كَانَ قَاعِدا عِنْد عبد الله بن عمر إِذْ طلع خباب صَاحب الْمَقْصُورَة فَقَالَ: يَا عبد الله بن عمر أَلا تسمع مَا يَقُول أَبُو هُرَيْرَة إِنَّه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "من خرج مَعَ جَنَازَة من بَيتهَا وَصلى عَلَيْهَا ثمَّ تبعها حَتَّى تدفن كَانَ لَهُ قيراطان من أجر كل قِيرَاط مثل أحد، وَمن صلى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ من الْأجر مثل أحد" فَأرْسل ابْن عمر خباباً إِلَى عَائِشَة يسْأَلهَا عَن قَول أبي هُرَيْرَة ثمَّ يرجع إِلَيْهِ فيخبره بِمَا قَالَت. وَأخذ ابْن عمر قَبْضَة من حَصى الْمَسْجِد يقلبها فِي يَده حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُول فَقَالَ: قَالَت عَائِشَة: صدق أَبُو هُرَيْرَة. فَضرب ابْن عمر بالحصى الَّذِي كَانَ فِي يَده الأَرْض وَقَالَ: لقد فرطنا فِي قراريط كَثِيرَة" اهـ.
وَقد لَاحَ لَك مِمَّا تقدم من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَن هَذَا الْعُمُوم لم يتَنَاوَل النِّسَاء لوُرُود النَّهْي الْخَاص من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اتباعهن الْجَنَائِز فَكَذَلِك مَا هُنَا فاحفظ ذَلِك وَكن بِهِ حفيا وتدبر بِعَين الْبَصِير بمرامي الشَّرِيعَة وقواعدها فسيظهر لَك بمعونة الله صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ ورجحان مَا أبديناه وَلَا حوله وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه.