للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أخفى عليه إنْ مَشَي ... تُ وهو يخفى إن مشى

فلا أراه قِلَّةً ... ولا يراني عمشا

وذاك أن عينه كانت غير صحيحة، لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والغمض والانفتاح، وفيه يقول البصروي في قصيدة:

وفي انض الأعمالِ قاضٍ ... ليسَ بأعمى ولا بصيرٍ

يقضمُ ما يجتبى إليهِ ... قضمَ البراذيِن للشَّعيرِ

بعني بذاك نظره في أمر العيار ودار الضرب.

٢٢٦ - وحدثني غيره قال: جاء إلى التنوخي رجل على الطريق، وهو راكب حماره، فأعطاه رقعة وبعد مسرعاً عنه، ففتحها فإذا فيها:

إنَّ التنوخيَّ به أُبنَةٌ ... كأنَّه يسجدُ للفيشِ

له غلامانِ ينيكانهِ ... بعلةِ التزويح في الخيشِ

فلما قرأها قال لغلمانه: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه وردوه، فقال: هذه الرقعة منك؟ قال: لا، أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها إليك، قال: قل له يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قبحة، هات زوجتك وبنتك وأمك وأختك إلى داري، واحضر معهم، وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت عليَّ بما قد حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه! فصفعوه وافترقا.

٢٢٧ - حدثني أبو سعد بن سعدان العطار قال: كان في جوارنا بدرب عبدة من نهر الدجاج فقيه يعرف بالكشفلي من الشافعيين، وتقدم التقدم الشديد حتى جعل في رتبة أبي حامد الأسفراييني، وقعد بعد موته مقعده وسد مسده، واتفق أن حملت إليه عمامة عريضة قصيرة من خراسان، فقلت: أيها الشيخ اقطعها وألفقها ليمكنك التعمم بها، فلما كان من غد رأيتها على رأسه أقبح منظر؛ وتأملتها وإذا به قد قطعها عرضاً ولفقها فصار عرضها أربعة عشر شبراً، وطولها نصف ما كان، فعجب منه ولم أراجعه.

٢٢٨ - عرض على الوزير ذي السعادات أبي الفرج محمد بن جعفر ابن فسانجس بالبصرة في سني نيف وثلاثين وأربعمائة، بعض التجار المسافرين ثلاث شقاق دبيقية مذهبة رفيعة، فبقيت مدة في خزانته، وحضر صاحبها في يوم كان ذو السعادات فيه متنمراً من شيء اتفق عليه، وطالب بها، فتقدم بإخرجها إلى حضرته، فجيء بها، ففتح الدواة، وكتب على واحدة بخط غليظ: "هذه لا تصلح"وعلى أخرى: "هذه غير مرضية" وعلى الأخرى: "هذه غالية" وقال: ادفعوها إليه، فأخذها الرجل وقد هلكت عليه! وكانت له في مثل ذلك نظائر، لأن السوداء كانت غالبية عليه وعلى خلقه وطبعه، وكان إذا أخطأ الفرس تحته يتقدم بقطع قضيمه، تأديباً له، فإذا قيل له في ذلك قال: أطعموه ولا تعلموه بأني علمت بذالك!

٢٢٩ - وحدث الكرماني، كاتب كان لأبي بكر ابن الصيرفي صاحب الجيش، قال: أنفذني أبو بكر صاحبي لأنفق في رجال أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء، فأنفقت فيهم، واستقضلت أنا وكاتب أبي محمد جعفر والجهبذ والنقيب نحو عشرة آلاف درهم، وقلنا ندخل إلى موضع ونتحاسب ونتقاسم، فدخلنا مسجداً بإزاء دار أبي محمد جعفر، ليس فيه إلا رجل عليل نائم في زي السؤال، فأقللنا الفكر فيه، وغلطنا وأخطأنا في ذلك، وأخذنا نتحاسب ونقول: أخذنا من رزق فلان الساقط بالوفاة كذا، ورزق فلان البديل كذا، ومن الضروب كذا، ومن فضل الوزن كذا، إلى أن جمعنا المبلغ الذي أخذناه، وعينا قسط كل واحد منا، وأقبلنا نزنه لصاحبه ونعطيه إياه، فرفع الرجل الغريب رأسه وقال: يا أصحابنا أخرجوا لي قسماً معكم، فقلنا: ولم؟ قال: قد سمعت ما كنتم فيه! فقلنا: هذا الرجل ضعيف، فأعطيناه خمسة دراهم، فقال: لا أقنع إلا بقسط مثل واحد منكم، فغاظنا، واستخففنا به، فقال: لا عليكم إن أعطيتموني ما طلبت، وإلا قمت الساعة ومضيت إلى أبي بكر بن الصيرفي وعرفته أنكم أخذتم باسم فلان الساقط بالوفاة كذا، وباسم فلان البديل كذا، ومن جهة كذا وكذا، ومن جهة كذا وكذا .. ولم يزل يذكر ما كنا فيه تجارينا إلى أن أتى على جميع الوجوه ومبلغ المال المسروق، حتى لم يخرم شيئاً منه، وقال: فأقل ما يعاملكم به إذا لم يصرفكم أن يرتجع المال منكم! ففكرنا في قوله، وعلمنا صحته، فرمنا منه الاقتصار على بعض ما طلب، فلم يفعل، ودخلنا تحت حكمه، وأعطيناه سهماً كأحدنا، وقمنا واجمين من غلطنا وسهونا فيما سامحنا به نفوسنا في فعلنا ما فعلناه.

<<  <   >  >>