للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

٢٣٠ - وحضر يوماً أبو عباد ثابت بن يحيى وزير المأمون بحضرة المأمون، فعرض عليه ما أراد عرضه عليه، وخاطبه على ما أراد خطابه فيه، ثم انصرف، فأمر المأمون برده، فرد، وخاطبه في شيء، وانصرف حتى إذا بعد تقدم برده، فرجع، وقد تغيظ وتنمر، وأمره بأمر وانصرف، فلما بعد تقدم برده، فقال للرسول: وأخذ الدواة من الدواتي بيده الساعة والله يابن الفاعلة أضرب بها رأسك! ألا قلت له: قد مضى إلى النار!! ورجع فقال له المأمون: اعرض غداً فيما تعرض حوائج الهاشميين، فقال: نعم، والآن فاذكر يا أمير المؤمنين كل ما تريده مني، فو الله لا رجعت اليوم إليك بعد هذه الدفعة ولو قمت بنفسك إلي تردني! فضحك المأمون وقال: انصرف راشداً.

٢٣١ - كان شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش بن بدران أمير بني عقيل قبض على إبراهيم أخيه لإفساد عليه اتهم به، واعتقله في قلعة له، وأراد المضي إلى السلطان عضد الدولة أبي شجاع الب ارسلان إلى خراسان، فاستدعى مستحفظ القلعة التي فيها إبراهيم أخوه، وقال له: أنا ماض إلى هذا السلطان، ولست أعلم ما يكون مني هناك، فإن أنا هلكت أو قبض علي فأفرج عن إبراهيم أخي ليقوم مقامي في إمارة العشيرة، وإن سلمت فأنت على حالك في الحفظ والحراسة ل، وكان أبو وجابر بن صقرب كاتب مسلم حاضراً، فوضع يده على فخذ مسلم رأسه إلى مستحفظ القلعة وقال له: دع هذا الكرم عنك، لو جاءك رأس الأمير في مخلاة لا تفرج عن إبراهيم حتى تراني! فأطرق الأمير، وخرج المستحفظ ثم عاد من بعد إلى الأمير وقال: ما تقول فيما قاله أبو جابر؟ قال له: هذا رجل أحمق لا تسمع منه ولا تطع له! وقبض بعد أيام على ابن صقلاب وقتله.

٢٣٢ - قيل: وجلس أبو عباد يوماً بين يدي المأمون يكتب فدخلت شعرة بين سنى قلمه، وعمد إلى إخراجها بسنه، ثم كتب فإذا هي بحالها، فأهوى إليها ثانية فقطع وبقي أصلها، ثم كتب فإذا هي غمرت جميع حروفه، فكسر القلم ورمى به وقال: لعنك الله ولهن من براك ومن أنت له! فضحك المأمون وأنشد أبيات دعبل فيه وهي:

أولى الأمورِ بضيعةٍ وفسادِ ... أمرٌ يدبرهُ أبو عبادِ

خرقٌ على جلسائه فكأنَّما ... حضَرُوا لملحمةٍ ويمِ جلادِ

وكأَنَّهُ من دَيْرِهِزْقِلَ مفلِتٌ ... حردٌ يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ

فاشددْ أميرَ المؤمنين وثاقهُ ... فأنصحُّ منه بقيةُ الحدّادِ

٢٣٣ - ودخل أبو عباد يوماً إلى المأمون فقال له: يا ثابت، ما أراد بك دعبل حيث يقول:

وكأَنَّهُ من دَيْرِهِزْقِلَ مفلِتٌ ... حردٌ يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ

فقال: الذي أراد يا أمير المؤمنين حيث يقول:

إنِّي من القومِ الذين سيوفهم ... قتلنْ أخالك وشرفتكَ بمقعدِ

شادوا بذكركَ بعد طول خُموله ... واستنقذوكَ من الحضيض الأوهدِ

فقال المأمون، وقد تنمر وعلم غلطه في خطابه لمثله بما خاطبه به حتى أجابه عنه بما أجابه: فإني قد عفوت عنه، فلا يتعرض له!

٢٣٤ - وحدث محمد بن أبي سمير وكان كاتباً لأبي عباد قال: كان في ناحية أبي عباد رجل خراسان يعرف بالغالي يأنس به، وكان من رسمه أنه إذا مدح شاعرٌ أبا عباد أنشد الغالي عقيبه مثله ... من قيله فيه، فاتفق أن دخل يوماً أبو سعد المخزومي إلى أبي عباد، وهو مشغول، فاستأذنه في إنشاده فأذن له على كره، فلما فرغ أظهر له استحسان شعره، وانصرف أبو سعيد، وقد ضجر أبو عباد بقطعه إياه بشعره عن شغله، فقام الغالي على عادته واستأذنه في الإنشاد، فقال له متبرماً متغيظاً: أنشد، فقال:

لمّا أنخنْا بالوزيرِ ركابنا ... مستعصمين بجودهِ أعطانا

ثَبَتَتْ رَحى مُلْك الإمام بثابتٍ ... وأفاضَ فيه العدلَ والإحسانا

يقري الوفودَ طلاقةً وسماحةً ... والناكثين مهنَّداً وسِنانا

منْ لم يزلْ للناسِ غيثاً مُمرِعاً ... متخرِّقاً في جوده ....

وأشار إليه بوجهه، وجعل يردد: "في جوده .. " فاغتاظ أبو عباد وقال: ويلك! قل: "قرنانا، كشخانا! " وأرحنا! فقال: يا سيدي "معوانا" فارتجَّ المجلس بالضحك، ومضى الغالبي على وجهه، فلما سكن أبو عباد جعل يضحك مما كان منه، وأخذ القلم ووقع له بألفي درهم، وسلمه إلى من لحقه به.

<<  <   >  >>