للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقد كان لمصر والشام دائما الصدارة بين الأمم التي انتشرت فيها الحضارة اليونانية , وهما البلدان اللذان ظهر التصوف فيهما لأول مرة بمعناه الدقيق وتطور كما أسلفنا. والرجل الذي اضطلع بأكبر قسط في تطور هذا النوع من التصوف , هو ذو النون المصري الذي وصف بأنه حكيم كيميائي , أو بأنه - بعبارة أخرى - أحد أولئك الذين نهلوا من منهل الثقافة اليونانية. فإذا أضفنا إلى هذا أن المعاني التي تكلم فيها ذو النون هي _ في جوهرها - المعاني التي نجدها في كتابات يونانية مثل كتابات ديونيسيون ........

وليس عندي من شك في أن المذهب الغنوصي بعد ما أصابه من التغيير والتحوير على أيدي مفكري المسيحية واليهودية , وبعد امتزاجه بالنظريات اليونانية كان من المصادر الهامة التي أخذ عنها رجال التصوف الإسلامي , وأن بين التصوف والغنوصية مواضع اتفاق كثيرة هامة. ولا شك عندي أيضاً في أن دراسة هذه المسألة دراسة دقيقة وافية لما يأتي بأطيب الثمرات , ولكنني على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق , استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسي , ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية: أو بمعنى أدق وليد اتحاد الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصي) (١) ز

ويقول في مقال آخر:

(ومما يحملنا على الجزم بوجود أثر للفلسفة اليونانية في التصوف الإسلامي أن نظرية المعرفة فيه ظهرت في غربي آسيا ومصر في بلاد تأصلت فيها الثقافة اليونانية أحقابا طويلة , وكان بعض المبرزين في الكلام فيها من أصل غير عربي) (٢).

وفي مقال آخر صرح بأن التصوف الفلسفي الإلهي هو أثر من آثار النظر اليوناني , ولا يمكن الإنكار من امتزاج الفكر اليوناني والدين الإسلامي في التصوف وخاصة الأفلاطونية المحدثة (٣).


(١) انظر في التصوف الإسلامي وتاريخه لنكلسون ترجمة عربية ص ١٤ وما بعد.
(٢) أيضا ص ٧٣ , ٧٤.
(٣) صوفية الإسلام ص ١٥.

<<  <   >  >>