رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً , فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا , حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت. ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل (لئلا تضلهم الأوهام الخطرة). فمنهم من كان يحرث الأرض , ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل , أو يصنع أحذية من الخشب , أو ينسخ المخطوطات. وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة. على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل. ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان , وقد أبت العذراء سلفيا أن تغسل أي جزء من جسدها عدا أصابعها , وكان في أحد الأديرة النسائية ١٣٠ راهبة لم تستحم واحدة منهن قط أو تغسل قدميها , ولكن الرهبان أنسوا إلى الماء حوّالي آخر القرن الرابع , وسخر الأب إسكندر من هذا الانحطاط فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان (يغسلون وجوههم قط).
وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم. فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات , وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك , منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود , ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن , فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري. ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites (٣٩٠؟ - ٤٥٩) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً. وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء. وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء. وبني سمعان لنفسه في عام ٤٢٢ عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه. ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام , وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام.
وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد. وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود , وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه , فتعفن حوله , ونتن وكثرت فيه الديدان , فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها