للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا تراهم يقولون: أرض الشام، والشام شامة، وعده ابن الأسيوطي خمسة أجناد، الأول من الفرات جند قنسرين وجند حمص ثم جند دمشق، ثم جند الأردن، ثم جند فلسطين، قيل: كل جند [من] هذه عرضه من ناحية الفرات إلى ناحية فلسطين، وطوله من الشرق إلى البحر، وقد ذهب بعضهم إلى تسمية (أي الشام) شاماً وشامات له، يعني اختلاف أراضيه في ألوان ترابها، وقد علمت أن بعض تربه أبيض، وبعضها أسود، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها كالدر، ويختلف كل لون منها إلى ذاته في الأشدية، والأضعفية اختلافاً كثيراً، فصح أن إطلاق الشامة ههنا كونه شامة في الأرض. إذا الشام بمجموعة لو كان لوناً واحداً لكان كالنكتة الخفية في أديم الأرض، ثم إنهم تجاوزوا في استعمال الشام إلى أن أطلقوها على غير اللون، فأطلقوها على كل شيء قليل وقوعه، فقالوا: فلان في قومه شامة إما لمزية بالكرم والحلم، أو بالشجاعة وغير ذلك من الصفات الحميدة، وما أحسن قول ابن الساعاتي:

لولا صدودك يا أما ... مة مابت أندب عهد رامه

لما وقفت على القدود ... الهيف أسجع كالحمامه

أبكي ليالي غبطة ... كانت بخد الشام شامه

فأطلق الشامة على لياليه التي قطعها بالشام، لأنه استلذ زمانها، واستطاب أوقاتها من بين الليالي، ولذلك يجوز إطلاق الحال على كل نكته من أي لون كانت.

قال الصابئ في خادمه رشيد وكان أسود:

قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه يعلو علو الخاتن

ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... إن زدت فيه [مزيد محاسن]

ولوأن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شانني

فأطلق الخال على النكتة من البياض.

وقال أحمد بن إبراهيم الحسني بابن أم الحرمين:

وعاكس الليل وبر الدجى ... نجده والخال أهواه

فالبدر خال في محيا الدجى ... والليل خال في محياه

فجعل البدر خالاً، وهو نكته بين البياض والصغر في سواد الليل، وعكس هذا الشريف فقال:

إن لمعت ليلاً نجوم السماء ... بيضاء على أدهم مرخي الإزار

أوجب العكس مثلاً لها ... في الأرض فلسود نجوم النهار

وما أحسن قول القائل، وقد أبدع في سوداء:

يا أبنوسي التي ألهو بها ... ما بال ثغرك وحده قد فضضا

أصبحت كذلك شامة مسودة ... وبسمت عنه فكان خالاً أبيضا

وذكرت بقول الصابئ قول [ابن] قلاقس [يمدح] السعيد السعدا

أو كان كافوراً بمعجز أحمد ... قد كان إنساناً لعين زمانه

فالدهر يعلم أنك الكحل الذي ... خلع الجمال به على إنسانه

ولمن مرا شفه وخال خدوده ... وأحم فودية وسر جنانه

لون بوجه البدر منه إشارة ... شانت سواه فرفعت من شإنه

وكأنما علق الشباب بحبه ... فأرعاه ما راق من ريحانه

قوله: خلع الجمال به على إنسانه يشير إلى قول أبي الطيب المتنبي في قصيدة مدح بها كافور الإخشيدي:

فجاءت به إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها وآماقيا

وهذا نهاية الحسن في مدح السود، وكما قالوا في الشيء المستلذ المستجاد: هو شامة. كذلك يقولون: هو خال.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن حماد المغربي:

وذات ليل ضمنا وكأنه ... في خد ذاك العصر حسناً خال

وله:

وما الدهر إلا صفحة بل طلعة ... لثمت بها ليل وصلك خالا

وقال شيخنا ابن الساعاتي في المعنى:

غابوا وما فكرتي فيهم بغائبة ... فاللحظ للقلب لا للعين والأذن

وربما ليلة كانت بقربهم ... خالاً لهوت به في وجنة الزمن

والحسنة أصل وضعها في اللغة أنها ضد السيئة، فنقلها العرف والاصطلاح بين الناس إلى الخال، إما لأنهم نحوا [ذلك] لمناسبة بينهما وبين الحسن في الاشتقاق، وإما أنهم لما رأوها نكتة سوداء في الجسم، قالوا: حسنة، كما قالوا للديغ سليماً، وللمهلكة مفازة، فتفاءلوا للديغ بالسلامة، وفي المهلكة بالفوز والنجاة منها. على أن الرياشي قال: قلت لابن الأعرابي: إن الأصمعي يزعم أنما سميت مفازة تفاؤلاً إلى اسم الفوز والنجاة منها، وإنما هي مهلكة، ومثل هذا التفاؤل قولهم للديغ سليماً تفاؤلاً إلى اسم النجاة؟ فقال ليس هذا شيئاً، إنما المفازة المهلكة، فقال فاز الرجل وفوز، إذا هلك ومات، قال كعب ابن زهير:

<<  <   >  >>