للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فأتى بالعروض محذوفةً، ولا شك أن الحذف من أنواع العلل كما سبق، إلاّ أنهم أجرؤه في هذا الموضع الخاص مجرى الزحاف، فجعلوه من قبيل الجائز لا اللازم. وقوله ((ولا سوى)) يعني أنه لا يجري من العلل مجرى الزحاف إلا هذان الأمران خاصةً، وهما التشعيث والحذف فيما ذكرناه، فإن اتفق مجيء غيرهما من العلل على هذا الوجه فهو شاذ لا يعوّل عليه، كما حكى عن البرّد من إجازة القصر في العروض الأولى من المتقارب، كقوله:

ورمنا قصاصاً وكان الّتقاصٌّ فرضاً وحتماً على المسلمينا

وفيه مع شذوذ القصر التقاء الساكنين في غير القافية وهو شيء لا نظير له. واعلم أن الاعتراض يتوجه على الناظم على مساق هذه النسخة التي شرحنا عليها بأن الخرم من أنواع العلل باعترافه، وهوغبر لازم باتفاق العروضيين، فإذن هو جارٍ مجرى الزِّحاف، فكيف يصح قوله ((ولا سوى)) مع ثبوت مثل هذا عنده. وقد وجدت نسخةٌ ترجم فيها بقوله ((ما أجرى من العلل مجرى الزحاف)) وأنشد بعد هذه الترجمة ((وسل ودا اخرم للضرورة صدرها)) إلى آخر الأبيات الثلاثة التي منتهاها قوله ((وقد مضى)) وبعدها يليها قوله هنا ((وشعث كن)) الخ، فينبغي أن تكون هذه النسخة هي المعتمدة لإثبات هذه الأبيات في المحل اللائق بها وزوال الإشكال الوارد على تلك النسخة. وسكّن الناظم التاء من ((وتد)) تخفيفاً على حد قولهم في كتف كتف. ويوجد في بعض النسخ ((ودّ)) بالإدغام، وهو أيضاً جائز لأن التاء تسكن ثم تبدل دالا وتدغم. والله الموفق للصواب.

قال: فصدراً وحشواً قل عروضاً وضربها تغيرت الأجزاء فاختلف الكنى فقيل ابتداءٌ واعتمادٌ وفضلها وغايتها المختص منها بما جرى أقول: نصب الناظم ((صدراً)) وما بعده على الظرف، والعامل هو الفعل من قوله ((تغيرت الأجزاء)) ، يعني أن الأجزاء تتغير في صدر البيت أو في حشوه أو في العروض أو في الضرب فيختلف كناها، أي أسماؤها، في اصطلاح العروضيين. قلت: ولو قال فاختلف السّما، أي الاسم، لكان خيراً، لأنّ فيما مخالفةً لاصطلاح أهل العربية، إذ الكنية عندهم علم صدّر بأب أو أمٍ، والخطب يسير. والضمير من قوله ((ضربها)) عائد على العروض. ثم قال: ((فقيل ابتداء واعتماد)) إلى آخره. فقوله ((المختص)) مبتدأ مؤخر خبره مقدم، وهو قوله ((ابتداء)) إلى آخره، والضمير من قوله ((فصلها وغايتها)) عائد على الأجزاء المتقدم ذكرها في البت السابق. وفي كلامه لفّ ونشر مرتب، فالابتداء راجع إلى الصدر، والاعتماد راجع إلى الحشو، والفصل راجع إلى العروض، والغاية إلى الضرب. ومعنى هذا الكلام أن الجزء الواقع في صدر البيت إذا كان مخالفاً لحشوه باختصاصه بعارض عرض له لا يجوز ارتكابه في الحشو، كالخرم في صدر البيت من الأبحر التي يدخلها الخرم، فإنه يسمى ابتداء. قال الزجّاج: وزعم الأخفش أنّ الخليل جعل ((فاعلاتن)) في المديد الواقع في صدر البيت ابتداءٍ، واستشكله الأخفش بأنها مساوية للحشو في جواز مزاحفتها بالخبن والكفّ. وأجيب بأن ألفها في الصدر تحذف أبداً لغير معاقبة، وأما في الحشو فلا تحذف إلا لمعاقبة فثبتت المخالفة، فلذلك سماه الخليل ابتداء. قلت: وقضية هذا أن يكون الابتداء عند الخليل اسماً لأول جزء في البيت إذا اختصّ بتغيير يلحقه من علةٍ أو زحاف، سواءٌ وجد التغيير فيه بالفعل أو لم يوجد مع إمكان وجوده، وهذا مخالف لقولهم إن ((الموفور)) اسم للجزء الذي يجوز أن يخرم ولم يخرم. فتأمل. وأمّا الاعنماد فهو عند الجمهور لا يطلق إلا على قبض فعولن في الطويل إذا كان قبل الضرب المحذوف يليه، وعلى سلامة نونه قبل الضرب الأبتر في المتقارب. قلت: وكذا على سلامة نونه قبل عروض المتقارب الثانية المحذوفة إذا دخلها على ما ستعرفه. وأما الفصل فهو العروض المخافة لحشة البيت ببنائها على مالا يكون فيه من صحة أو اعتلال، فمفاعلن في عروض الطويل فصل للزوم القبض لها، وهو في الحشو غير لازم، وكذا مستفعلن في عروض المنسرح فصلٌ لأن خبلها لا يجوز مع جوازه في الحشو. وأما الغاية فهي في الضروب كالفصل في الأعاريض. وأكثر الضروب غايةٌ، لأن غالبها مبني على ما لايصح دخوله في الحشو كما يتبين لك عند الخوض في البحور. قال:

وإن تنج فالموفور يتلوه سالمٌ صحيحٌ معرى لا تدعْ ذلك الهدى

<<  <   >  >>