للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهنا انتهى تعداد المراتب. ولا يخفى عليك أن الأجزاء الثلاثة والثمانين التي قدمنا أنها جملة التفاعيل الموزون بها إنما يأتي تعديدها كذلك باعتبار ما طرأ من التغييرات التي أسلفناها مع قطع النظر عن الاشتباه وعدمه، فإن رمت ضبطها بغير تكرار فاعلم أنها ثلاثة وأربعون جزأً ليس إلا، وهو الأصول العشرة والتسعة عشر فرعاً التي لا تشتبه بغيرها، وأجزاء المرتبة الأولى وهي سبعة، وأجزاء المرتبة الثانية مفاعلين ومتفعلن وفاعلات، والجزء الثاني من المرتبة الثالثة وهي فعلن المتحركة بالعين، وجزآن من المرتبة الرابعة وهما فعلن الساكن العين ومفاعلن، وجزء المرتبة الخامسة وهو مفعولن.

فإذا أراد عروضيّ أن يزن شيئاً من الشعر العربي لم يخرج عن هذه الثلاثة زالأربعين جزءاً، ولا يمكنه إلا الإيتان ببعضها عند التفعيل فتأمل ذلك والله تعالى أعلم بالصواب.

ولنختم الكلام في فن العروض بفصل ذكره ابن برىّ التازي في شرحه لعروض ابن السقاط فنورده برمته لاشتماله على فوائد لا بأس بالإحاطة بها علماً. قال: وقد تجافى بعض المتعسفين عن هذا العلم ووضعوا منه واعتقدوا أن لا جدوى له واحتجوا بأن صانع الشعر إن كان مطبوعاً على الوزن فلا حاجة له بالعروض كما لم يحتج إليه من سبق الخليل من العرب وإن كان غير مطبوع فلا يتأتى له نظم العروض إلا بتكلف ومشقة، كما قال أبو فراس الحمداني:

تناهض الناسُ للمعالى ... لمّا رأوا نحوها نهوضي

تكلفوا المكرمات كدّاً ... تكلفَ النظم بالعروض

ولأن بعض كبراء الشعراء لم يقف عندما حدَّه الخليل وحصره من الأعاريض بل تجاوزها. ولمّا قال العتاهية أبياته التي أولها:

عُتْبُ ما للخيال ... خبريني ومالي

قيل له إنك خرجت عن العروض فقال أنا سبقت العروض. ولأنه يُخرج بديع الألفاظ ورائق السبك إلى الاستبراد والركاكة، وذلك حالة التقطيع والتفعيل، وربما أوقع المرء في مهوى الزلل ومقام الخجل بما يتحول إليه ضوغ البنية من منكر الكلام وشنيع الفحش، كما جرى في مداعبة أبي نواس وعنان جارية الناطفي حين قالت إن كنت تحسن النظر في العروض فقطع هذا البيت:

حوَّلوا عنا كنيستكم ... يا بني حمّالة الحطبِ

فقطعه فضحكت منه، وفعل بها مثل ذلك في تقطيع قوله:

أكلتُ الخردل الشّاميّ ... في صفحةِ خبّازِ

وقد صرح الجاحظ وهو من علماء اللسان بذمّ علم العروض فقال: هو علم مولّد وأدب مستبرد ومذهبٌ مرذول يستنكد العقول بمستفعلن وفعول من غير فائدةٍ ولا محصول. والجواب أن الحق الذي به كل منصف أن لهذا العلم شرفاً على ما سواه من علوم الشعر لصحة أساسه واطراد قياسه ونُبل صنعته ووضوح أدلّته. وجدواه حصر أصول الأوزان ومعرفة ما يعتريها من الزيادة والنقصان وتبيين ما يجوزمنها على حسن أو قبح وما يمتنع، وتفقدُ محالٌ المعاقبة والمراقبة والخرم والخزم وغير ذلك مما لا يتزن على اللسان ولا تتفطن إليه الفِطرُ والأذهان، فالجاهل بهذا العلم قد يظن البيت من الشعر صحيح الوزن سليما من العيب وليس كذلك، وقد يعتقد الزّحاف السائغ كسراً وليس به كقوله:

قلتُ استجيبي فلما لم تُجبْ ... سالت دموعي على ردائي

وقول الآخر:

عيناك دمعها سِجالُ ... كأن شأنيهما أوشالُ

وقول الآخر:

النشرُ مسكٌ والوجوهُ دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنمْ

وقول الآخر: شمنازلٌ عفا هُنّ بذي الأرا_ك كلُّ وابلٍ مُبلٍ هطلِ وقول الآخر:

صرمتكَ أسماءُ بعد وصالها ... فأصبحت مكتئباً حزينا

فهذه أبيات كلها صحيحة الوزن سائغة مستعملة عند العرب مع أن الطبع ينبو عنها، ولا يدرك جوازها إلا من نظر في هذا العلم. وهل علم العروض للشعر إلا بمثابة علم الإعراب للكلام؟ فكما أن صنعة النحو وضعت ليعافى بها اللسان من فضيحة اللحن فكذلك علم العروض وضع ليعافى به الشعر من خلل الوزن، فلولاه لاختلطت الأوزان واختلفت الألحان وانحرفت الطباع عن الصواب انحراف الألسنة عن الإعراب. وقد وقع الخلل في شعر العرب كثيراً، وأنشد الأصمعي وأبو عبيدة وابن دريد وابن قًتيبة وغيرهم من كبار الأئمة بيتَ عبيد بن الأبرص هكذا مكسوراً:

هي الخمر تكنى الطَّلا ... كما الذئب يُكنى أبا جعدهْ

ووقع في شعر علقمة قوله في فكه أخاه شأساً:

<<  <   >  >>