للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- فظاعة الجرم!!

لم يتوقع أحد من الصحابة أن يُقتل عثمان. أما الحسن والحسين ومن معهما فقد كانوا يحرسون بابه، ولكن القتلة تسوَّروا عليه من دار مجاورة لداره. لقد قتلوه قتلة شنيعة ترتعد منها الفرائص، ومثلوا به وهو يتلو القرآن، وكانت تلاوة القرآن نوعاً من العبادة، فضربه بعضهم بحديدة، وبعضهم ضربه بمشقص، وطعنه آخر بتسع طعنات، وكسر الآخر ضلعاً من أضلاعه. ولم يكتفوا بذلك بل تعدوا على امرأته المخلصة بالسيف وببذيء الكلام، وأرادوا قطع رأسه بعد أن فارق الحياة، ونهبوا أمتعة المنزل وما في بيت المال، ومنعوا عنه الماء أثناء الحصار حتى ⦗١٨٥⦘ غضب عليّ وهالته قسوتهم، فقال لهم: "أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي".

لا أحد يبرز قتل عثمان والتمثيل به. ولم يجترئ عليه أحد من كبار الصحابة حتى المخالفين له في الرأي، لأنهم كانوا يجلُّونه، ويوقرونه، لمكانه من رسول اللَّه، وأياديه البيضاء في سبيل الإسلام، وحسن أخلاقه، وعواطفه، وسائر فضائله التي لا ينكرها أحد.

لا شك أن هؤلاء القتلة مجرمون، غلاظ الأكباد، قساة القلوب. فلم يراعوا حرمة صحبته للرسول، وصهره، ومنزلته في الإسلام، وخدماته الجليلة، وبذل الأموال الطائلة لنصرته ورفعته، ولم يخجلوا من التهجم على رجل فاضل قال عنه رسول اللَّه: "إن الملائكة تستحي منه" (١) . رجل سهل، لين، كريم، كفَّ يده، ونهى عن سفك دم المسلمين، وهو محاصر أشد الحصار، مهدد بالقتل، وكان مثال الصالحين، والقراء للقرآن، وعاش محبباً للناس لا يميل إلى الشدة والعنف، لقد فتكوا به وهو قابع في بيته، يتعبد بتلاوة القرآن، ونهى أصحابه حتى عن الدفاع عنه. فأيِّ قلب لا يتفطر، وأيِّ دمع لا ينهمر، وأيِّ فؤاد لا يذوب كمداً وأسى على قتل الخليفة الصالح من غير أن يرتكب إثماً يوجب القتل.

إن الذي جنى على عثمان وبغَّضه في الناس هم كما قلنا وقال غيرنا من كبار المؤرخين المحققين أقاربه الذين كان يحسن إليهم، فإنهم كانوا مستشاري سوء، ولم يكن لهم رأي صائب ونظر بعيد، وكانوا مع ذلك يصرفونه حسب أغراضهم وأهوائهم لا حسب ما تقضي به مصلحة المسلمين عامة. وقد ظل عثمان كما قبل ست سنوات في بدء حكمه وهو أحب الناس إلى الناس. فلو أنه ترك وشأنه يدبر الأمور بطبيعته الخيّرة الهادئة التي لا تميل إلى الشدة والقسوة والتعدي، وبلطفه وأدبه وإحسانه وبما اشتهر عنه أيام الرسول لما شكا منه شاك، بل لكان عهده عهد خير وسلام. لكن أقاربه قد تمكَّن منهم حب الذات والجشع، فانتهزوا فرصة خلافته، واستغلوا صفة حميدة فيه ألا وهي صلة الرحم، فكانوا يأتونه من هذه الجهة لينالوا مأربهم من ولاية وثراء واستئثار بالحكم، وقد تحكَّموا فيه زمن شيخوخته فلم يقوَّ على مقاومتهم وخلافهم. فكان ما كان من سفك دمه وبث بذور الفتن والشقاق.

قال جيبون في كتاب سقوط الإمبراطورية الرومانية: "إن عثمان اختار فخُدع، ووثق فغُدر، وصار من كان موضع ثقته عديم الفائدة وعدواً لحكومته، وانقلب إحسانه جوراً وتذمراً".


(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: ٢٦، وأحمد في (م ٦/ص ١٥٥) .

<<  <   >  >>