للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- نقض أهل الإسكندرية الصلح (١) (سنة ٢٥ هـ/ أواخر سنة ٦٤٥ م) :

جاء في دائرة المعارف البريطانية أنه بعد استيلاء العرب على الإسكندرية بقليل، انتهز ⦗٥٤⦘ الروم فرصة تغيب عمرو بن العاص (٢) وارتحال جزء كبير من جيشه. فاستولوا على الإسكندرية. فلما بلغ عمرو بن العاص ذلك عاد سريعاً واستولى على المدينة، وهذا يوافق ما جاء في ابن الأثير.

كان استيلاء الرومان على الإسكندرية في أوائل سنة ٢٥ هـ وأواخر سنة ٦٤٥ م وكان عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبد اللَّه ابن حذافة (٣) . قال الأستاذ بتلر: "وعلى كل حال فمن المؤكد أنه قد عزل قبل نزول الجيش الروماني إلى البر، وأن خلفه لم يكن كفأً فترك وسائل الدفاع في حالة ضعف شديد".

أما رواية الطبري (٤) فتفيد أن عمرو بن العاص كان قد استدعي إلى مكة، فلما ذاعت أخبار الثورة في الإسكندرية صدرت الأوامر إليه بتولي القيادة.

وجاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى (٥) ما يؤيد استدعاء عمرو بن العاص بعد عزله وتولية عبد اللَّه.

كاتب الروم قسطنطين بن هرقل (٦) - وكان الملك يومئذ - يخبرونه بقلة من عندهم من ⦗٥٥⦘ المسلمين - وكانوا ألف جندي - وبما هم فيه من الذلة وأداء الجزية، فبعث رجلاً من أصحابه يقال له: "أمنويل Emanuel The Eunuch" في ثلاثمائة مركب مشحونة بالمقاتلة - ولم يكن للمسلمين أسطول كالأسطول الروماني. وقد رست هذه المراكب في ميناء الإسكندرية بلا إنذار، فقتل حرس الإسكندرية من المسلمين - ويبلغون ألفاً - ولم ينج منهم إلا القليل. ولم يقتصر الجيش الروماني على الاستيلاء عليها، بل توغلوا في البلاد والقرى المجاورة في أرض الدلتا واستولوا على الغلال والأموال بلا حساب، وعاملوا الأهالي معاملة الأعداء المحاربين.

كان العنصر الروماني في الإسكندرية هو السائد، ويرى الأستاذ بتلر أن الجيش الروماني لو استمر في زحفه إلى الفسطاط بدلاً من ضياع الوقت في بلاد الدلتا، لكان في وسعه التغلب على عبد اللَّه بن أبي سرح (٧) وإعادة حصن بابليون، ولكنهم لم يقدموا على ذلك وبذا مكنوا عمرو بن العاص من إعادة مركزه وتنظيم جيشه اهـ.

سار عمرو في خمسة عشر ألفاً، والتقى بالجيش الروماني الذي يفوقه عدداً بـ "نقيوس"، فالتحمت بينهم الحرب، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيب جواد عمرو بن العاص بسهم فنزل واضطر أن يحارب على قدميه، وانتهى الأمر بانهزام جيش "أمنويل" وفراره نحو الإسكندرية في حالة ارتباك عظيم، فتحصنوا بها، فقاتلهم عمرو أشد قتال، ونصب المجانيق فأخذت جُدُرَها، وألح بالحرب حتى دخلها بالسيف عنوة، وقتل أمنويل وهدم المسلمون جدار الإسكندرية، وكان عمرو نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك. ووضع عمرو على أرض الإسكندرية الخراج، وعلى أهلها الجزية، وبذلك استولى العرب للمرة الثانية. ويقول الأستاذ بتلر: "إن ذلك كان صيف سنة ٦٤٦ م" ⦗٥٦⦘.

روى البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب (٨) قال: "كان عثمان عزل عمرو بن العاص عن مصر وجعل عليها عبد اللَّه بن سعد، فلما نزلت الروم الإسكندرية سأل أهل مصر عثمان أن يقر عمراً حتى يفرغ من قتال الروم، لأن له معرفة بالحرب رهيبة في أنفس العدو حتى هزم الخ".

وقد أخطأ مؤرخو العرب فقالوا: إن المقوقس كان حيَّاً في هذه الغزوة والحقيقة أنه كان قد مات منذ زمن طويل، كما قرر الأستاذ بتلر، وقد أدرك البلاذري خطأ وجود المقوقس في ذلك الوقت فقال ما نصه:

"وروي أن المقوقس اعتزل أهل الإسكندرية حين نقضوا فأقره عمرو ومن معه على أمرهم الأول، وروي أيضاً أنه كان قد مات قبل الغزاة".

والحقيقة أن بنيامين كان بطريركاً وزعيماً للوطنيين المصريين فظن المؤرخون أنه المقوقس، وهذا خلط في الحوادث والتواريخ، وقد كانت وفاة المقوقس في ٢١ مارس سنة ٦٤٢ م (٩) على ما جاء في تاريخ كامبردج للقرون الوسطى. أما الأستاذ بتلر فيؤرخ وفاته ١٤ يوليه سنة ٦٤٢ م. ولم يكن البطريرك بنيامين موجوداً في الإسكندرية عند دخول الروم، ويظن أنه هرب، لكنه على كل حال بقي موالياً للعرب، ولم ينقض صلحهم، بل الذي نقضه الروم.

كانت نتيجة نقض الإسكندرية الصلح أن استولى عليها العرب مرة ثانية، وقتلوا الروم، ولم يكن هناك سبب واضح لنقض معاهدة الصلح، فما فعله الإمبراطور كان مخالفاً للقوانين الحربية، كما قال الأستاذ بتلر، ولا يوجد ما يبرره فلا غرو إذا عامل العرب الثائرين بالشدة، ثم إن عمراً بعد أن أخضع الثوار في الإسكندرية ذهب لإخضاع المدن التي ثارت في الدلتا. ولما تمَّ له ذلك أرسل الأسرى إلى المدينة فأعادهم عثمان رضي اللَّه عنه.

وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بن العاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا، ولم نخالف نحن عليكم، وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة هذا ما ذكره ابن الأثير وأشار إليه الأستاذ بتلر معترفاً بفضل المبادئ التي ⦗٥٧⦘ سار عليها عمرو في إدارة حكومته وبشرف طبيعته، وكان أهل هذه القرى المذكورة الذين تظلموا لعمرو من الروم أقباطاً.


(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٥٩٤، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٢/ص ٤٧٦.
(٢) هو عمرو بن العاص بن وائل بن أشم بن سعيد بن سهم، أبو عبد اللَّه، السهمي، القرشي، المتوفى سنة ٤٣ هـ، أسلم في عام الحديبية، وهو واحد من عظماء العرب ودُهَاتهم وأولي الرأي والحزم والدهاء. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج ٨/ص ٦٦، تقريب التهذيب ج ٢/ص ٨٦، خلاصة تهذيب الكمال ج ٢/ص ٩٠، الكاشف ج ٨/ص ١٠، تاريخ البخاري الكبير ج ٣/ص ١٦٥، تاريخ البخاري الصغير ج ١/ص ٣٣٠، الجرح والتعديل ج ٦/ص ٢٠٠، الثقات ج ٣/ص ١٢٠، الاستيعاب ج ٣/٢٠١، أُسد الغابة ج ٤/ص ٣٣٠، تجريد أسماء الصحابة ج ١/ص ٣١٤، الإصابة ج ٤/ص ٥١٥، سير الأعلام ج ٣/ص ٦، طبقات ابن سعد ج ٩/ص ٧٧، البداية والنهاية ج ٨/ص ٩٦، أسماء الصحابة الرواة ص ١١٠، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢/ص ١٢٣، جمهرة الأنساب ٢١٥.
(٣) هو عبد اللَّه بن حذافة بن قيس السهمي القرشي، أبو حذافة، صحابي، أسلم قديماً، بعثه النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى كسرى، هاجر إلى الحبشة، وقيل: شهد بدراً، أسره الروم أيام عمر، ثم أطلقوه، شهد فتح مصر، توفي بها أيام عثمان سنة ٣٣ هـ، كانت فيه دعابة وله حديث. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج ٥/ص ١٨٥، إمتاع الأسماع ج ١/ص ٣٠٨، حسن الصحابة ص ٣٠٥، المحبّر ص ٧٧، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢/ص ٨٧، الجمحي ص ١٩٦.
(٤) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٥٩٤.
(٥) تاريخ كامبردج للقرون الوسطى ج ٢/ص ٣٥.
(٦) هو ابن هرقل الثاني ملك الروم.
(٧) هو عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح القرشي، العامري، من بني عامر بن لؤي، من قريش، فاتح أفريقية، فارس بني عامر، من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة، وهو من أهلها، وكان من كتَّاب الوحي، كان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، ولي مصر سنة ٢٥ هـ، بعد عمرو بن العاص، فاستمر نحو ١٢ عاماً، اعتزل الحرب بين علي ومعاوية في صفَّين، توفي بعسقلان فجأة وهو قائم يصلي سنة ٣٧ هـ، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاع. للاستزادة راجع: أُسد الغابة ج ٣/ص ١٧٣، ابن إياس ج ١/ص ٢٦، الاستقصاء ج ١/ص ٣٥، معالم الإيمان ج ١/ص ١١٠، ذيل المذيّل ص ٣١، تاريخ الجزائر ج ١/ص ٣١٧، الروض الآنف ج ٢/ص ٢٧٤، ابن عساكر ج ٧/ص ٤٣٢، البداية والنهاية ج ٧/ص ٢٥٠، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٣/ص ١١٤، النجوم الزاخرة ج ١/ص ٧.
(٨) هو يزيد بن أبي حبيب واسمه سويد، أبو رجاء، الأزدي، ثقة، فقيه، للاستزادة راجع: تهذيب الكمال ج ٣/ص ١٥٣١، تهذيب التهذيب ج ١١/ص ٣١٨، الكاشف ج ٣/ص ٢٧٥، الجرح والتعديل ج ٩/ص ١١٢٢، تاريخ الإسلام ج ٥/ص ١٨٤، الثقات ج ٥/ص ٥٤٦.
(٩) كامبردج القرون الوسطى ج ٢/ص ٣٥١.

<<  <   >  >>