للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فيجم الشاحج هنيهة ثم يقول: بنت برح شرك على رأسك، سمع لا بلغ، صمى صمام، صمى يا ابنة الجبل! هذه الخنفقيق، والسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - بردهاً حقيق. وإني لأحسب هذا الخبر كذباً إن شاء الله، لأن مثل السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " أعز الله نصره " ومثل زعيم الروم، مثل بازيين لكل واحد منهما فرق من الطير تحمل إليه الإتاوة، وقد تعاقد البازيان ألا يعرض واحد منهما لما في حيز الآخر من الخشاش، فالطير لما هي عليه من الخفة والجهل بغوامض الأمور، إذا رأت البازي الذي ليست هي في ملكه قد نظر إلى شطرها عن غير تعمد، أدركها من الفرق بالطبع ما يحملها على ترك الوكنات وطيرانها في الآفاق. وهي لا تعلم بما في نفوس البازيين، لأن كل واحد منهما لو عرض لطير الأخر بسوء لم يأمن أن يعرض لطيره بمثله أو شر منه وقد تأملت العوالم فوجدت عالم الجماد يشبه العالم النامي من جهات، ووجدت النامي يشبه العالم الحي غير الناطق شبهاً أغلب من الجماد بالنامي، ووجدت الحي غير الناطق يشبه الناطقين شبهاً أغلب من الذي قبله، ووجدت الناطقين يشبهون عالم نطقهم في بعض الشئون. وإنما قلت ذلك لك، لأن الملوك إذا وقع بينها الخلف، لقيت الرعية مشقة من الحياة حتى تحمد الوحدة ويثنى على العقم، وحتى يصح قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يكون أروح الناس فيه الخفيف الحاذ " قيل: يا رسول الله، وما الخفيف الحاذ؟ قال: " الذي ملا أهل له ولا مال " فمثل الوحيد مثل الحرف الفارد، إن لحقه تغيير فيسير، والغالب عليه أن يثبت على أمر لا يتغير، مثال ذلك الباء الزائدة، والكاف الزائدة، ألا ترى أن الباء تثبت على الكسر، والكاف تثبت على الفتح؟ والذي يلحقه من الفاردة تغيير مثل لام الملك كانت في الظاهر على هيئته فقلت: لزيد ولعمرو، وجاءت في المضمر على سوى ذلك فقلت: لك وله. ولو تكلف تغيير الفارد متكلف لم يمكنه فيه إلا أربعة أصناف: الضم والفتح والكسر والإسكان، فهذا مثل الوحيد من بني آدم يكون له التغيير أقل، فإذا كان الرجل له صاحب أو صاحبة فمثله مثل ما كان على حرفين مثل دم ويد، يتغيران بالقلب. وتلك الحادثة قد أممنها الوحيد لأن القلب إنما يمكن في الاثنين فتقول: دم مر. ويلحق الدال والميم صنوف التغييرات من الإعراب والسكون عند الوقف، أفلا تنظر إلى زيادة الاثنين في تغيير النوائب على الواحد؟ فإذا كان للرجل عيلان فصاروا ثلاثة كان التغيير أزيد وأوجد، ألا ترى أن الثلاثي من الأسماء مثل جمر وعمرو تنقلب حروفه ست مرات، والثنائي إنما ينقلب مرتين؟ فإذا كان للرجل ثلاثة من العيلة كان فعل الزمن في تغييرهم أكثر تصرفاً منه في تغيير صاحب الاثنين والواحد. والأربعة أشد حملاً للغير من الثلاثة، ألا ترى أن جعفراً وزهلقاً وما كان مثلهما من الرباعي، تنقلب حروفه أربعاً وعشرين قلبة؟ فإذا كان للرجل أربعة من العيلة فصاروا خمسة كان التغيير لهم أكثر، وذلك أن الخماسي من الأسماء مثل فرزدق وسفرجل، تنقلب حروفه مائة وعشرين قلبة؛ ثم تنتهي حال الأسماء الأصلية حروفها في العدد، ولا تنتهي حال الرجل في العيلة. ولو جاء شيء من الأسماء على ستة أحرف من الأصول لا نقلب سبعمائة وعشرين قلبة، فما ظنك بالمسكين آدم تكون له العشرة من العيلة وأكثر، وإنه للصعلوك الفقير؟ ولعل ذاهباً يذهب إلى أن الوحيد من بني آدم لا بد له من أن يتصل بغيره، فمثله مثل الحرف الواحد، ألا ترى أنك إذا أمرت من: وفى يفي، ومن: وعي يعي، لم يمكنك أن تنطق بذلك حتى تصله بغيره، فإن لم يكن لك غرض في الوصل جئت بهاء الوقف فقلت: فه، وعه؟ ولا يخفى هذا الوضع على من مثل ابن آدم بالحرف.

ولكن اتصال الفارد بغيره ممن لا يحفل به، أهون من اتصاله بمن فراقه عزيز عليه وبمن هو جار مجرى أعضائه، لأن من كان له صديق فباينه وجد العوض منه، ومن كان له ابن أو أخ أو والد لم يجد العوض منهم.

<<  <   >  >>