للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ألا ترى أن كاف كم، ولام لم، إذا فارقتهما الميم لم يعرف لهما معنى ولم يصلح أن يتصلا بشيء من اللفظ؟ والكاف واللام اللتان أصلهما الانفراد ليستا كذلك، لأنك إذا قلت: كزيد ولعمرو، ثم بدا لك أن تخرج الكاف واللام عن هذين الاسمين، صلح ذلك ولم يكن فيه مشقة وأدخلتهما على أي الأسماء شئت. فكذلك الرجل يتصل بالقوم فيكون معهم، أو بالصاحب فيصاحبه، المشقة عليه في فراقه إذا لم يكن ثم نسب قريب. ومثل أصحاب السيوف مثل الأسماء، ومثل غيرهم من الناس مثل الأفعال وحروف المعاني، ومثل الدول مثل الجمل من الكلام. وقد يمكن بناء الجملة من الأسماء والأفعال والحروف، ولا يمكن بناؤها من الحروف والأفعال دون الأسماء. وأفعال السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء، أعز الله نصره " مثل الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفعولين، ففعله - خلد الله ملكه - يرفع نفسه، وإنما عنيت رفع المحل وعلوه، ثم يكون رفع اللفظ تابعاً لذلك. ومفعولاته الثلاثة: الأول منها الرعية، والثاني العرب، والثالث الروم. وهو بتدبيره وسياسته يعمل فيمن بعد منه، فمثله مثل إن وأخواتها تتخطى ما بينها وبين معمولها من المعترضات حتى تعمل فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر " الآية، إلى قوله " تعالى ": " لآيات لقوم يعقلون " كيف تخطت إن ألفاظ الآية وهي كثيرة ولم يمنعها من العمل في " آيات " دخول اللام المعترضة؟ فكذلك هو - أعز الله نصره - وإن كان مقيماً في " حلب " حرسها الله، يؤثر فعله وسياسته فيمن وراء الدروب وإن فصل بينهما أعلام وسهوب.

وزعمت العامة بجهلها أن رسالته إلى زعيم الروم أمسك عن جوابها لأمر لا يعلم، فهل شعروا أن مثل رسالته مثل واو القسم يجيء جوابها بعد المهلة المتراخية وإن ظن السامع أن الكلام قد انفصل بعضه من بعض؟ ألا ترى أن الواو في قوله تعالى: " والفجر " جاء جوابها متراخياً بينه وبينها ألفاظ كثيرة وجمل معترضة، وهو قوله " تعالى ": " إن ربك لبالمرصاد "؟ ولعل زعيم الروم يخاف إن برز إلى بلاد المسلمين أن يفعل به " السيد عزيز الدولة " ما فعل بابن الصعق " الذي قال:

تركتُ النِّزَالَ لأَهلِ النزالِ ... وأَكرمتُ نفسِي على ابن الصَّعِقْ

جَعَلتُ يَدَيَّ وِشاحاً له ... وبعضُ الفوارِسِ لا يَعْتَنِقْ

وقد حمل " السيد عزيز الدولة " - خلد الله ملكه - ما فيه من الكرم والرأفة بالرعية والرغبة في حقن الدماء، على أن بعث هدية سنية أشبهت شرف قدره وعزوف نفسه. والهدية مثلها مثل ما التي تكف العامل عن العمل، ألا ترى أن إن وأخواتها تكفهن ما عن النصب؟ قال " ابن أبي ربيعة ":

إِنما أَهلُكِ جيرانٌ لنا ... إِنما نحنُ وهم شيءٌ أَحَدْ

وأنشد " سيبويه ":

تَحَلَّلْ وعالجْ ذاتَ نفسِكَ وانظُرَنْ ... أَبَا جُعَلٍ، لَعَلَّما أَنتَ حالِمُ

فلولا أن " ما " كفت لعل أن تعمل، لم يجز أن تتصل أنت بلعل، كما لا يجوز أن تتصل بنحن. وكذلك قول الآخر:

أَعِدْ نظراً يا عَبْدَ قيسٍ لعلما ... أَضاءَت لكَ النارُ الحمارَ المُقَيَّدا

فلما كانت " ما " كافة، أمكن ها هنا نصب الحمار.

ومثل " حلب " حرسها الله مثل عند، ومثل " السيد عزيز الدولة " - خلد الله ملكه - مثل من، ولا يجوز أن يدخل على عند شيء من الحروف العوامل غير من. وأجمع أهل النحو واللغة على أن قول العامة: مضيت إلى عند فلان، خطأ، لأن " إلى " لا تدخل على عند. ومثل السلطان المنصرف مثل " ربة " في قول " ضمرة بن ضمرة ":

مَاوِيَّ يا رُبَّةَ ما غارةٍ ... شعواءَ كاللِّذْعَةِ بالمِيسَمِ

حذفت منها الهاء فقيل: رب، واجترىء عليها من بعد فخففت الباء فقيل: رب، كما قال " عامر بن حليس ":

أَزُهَيْرَ إِنْ يَشِبِ القَذَالُ فإِنني ... رُبَ هَيْضلٍ لَجبٍ لَفَفْتُ بهيضلِ

ثم اجترىء على تسكين الباء، وحكى ذلك بعض الكوفيين. ثم زادت الجرأة فحذفت رب من الكلام وخلفتها الواو في مثل قول الراجز:

وبَلَدٍ عَامِيَةٍ أَعماؤه

كأَنَّ لَونَ أَرضِه سماؤه

<<  <   >  >>