الأَمْرُ فِيهِ كَمَا قَالَ الْقَاسِمُِ بْنُ مُحَمَّدٍ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا حَرَاماً لَمَا كَانَ بُدٌّ مِنَ الْعَيْشِ، وَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ قُوتِهِ فَلْيَتَلَطَّفْ جَهْدَهُ فِي شِرَاءِ الطَّيِّبِ، فَإِذَا بَذَلَ وُسْعَهُ وَاسْتَفْرَغَ طَاقَتَهُ وَقَعَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَصْلِهِ فَبِشِرَاءِ الْخَيْرِ، وَمَا يَقِلُّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ خَيْرٌ مِنْ شِرَاءِ مَا خَالَطَهُ غَصْبٌ أَوْ رِباً أَوْ بَيْعٌ فَاسِدٌ، ثُمَّ يَبْقَى قَائِماً بِعَيْنِهِ إِلَى حِينِ شِرَاءِ مَا أُفِيتَ بِوَجْهٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ لَيْسَ مِنَ الْوَرَعِ بِسَبِيلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِيمَا لا يَنْقُضُ عَلَى مَنْ بَاعَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ، وَإِنَّ ذِمَّةَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِمَّنْ أَفَاتَهُ خَالِيَةٌ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فَتَرْكُهُ وَإِنْ أُفِيتَ، كَمَا كَرِهَ مَالِكٌ سَلَفَ السَّلْمِ مِنْ نَصْرَانِيٍّ مَا بَاعَ بِهِ خَمْراً، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ النّصْرَانِيُّ بِذَلِكَ، يَعْنِي بَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْراً وَذِمَّةُ النَّصْرَانِيِّ خَالِيَةٌ فَكَيْفَ بِمَنْ أَفَاتَ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِمِثْلِهِ لإِفَاتَتِهِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ لَهُ، وَلأَنَّه اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِداً وَقَدْ كَرِهَ
مَالِكٌ شِرَاءَ طَعَامٍ مِنْ مُكْتَرِي الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ لَهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ كِرَاءُ الأَرْضِ عَيْناً، وَطَرِيقُ الْوَرَعِ يَشُقُّ طَلَبُهُ، وَيَعْسُرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَوْقَاتِ وُجُودُهُ إِلا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلكن يُجْتَزَأُ بِالأَشْبَهِ مِنَ الْمَوْجُودِ فَالأَشْبَهُ فَهُوَ الْمُمْكِنُ فِي كُلِّ حِينٍ، وَاللَّوْمُ عَلَى الْكَفَافِ مُرْتَفِعٌ إِذْ لا حَرَجَ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ الْمُتَحَدِّي بِحُدُودِ الإِسْلامِ كَاللاعِبِ الْمَازِحِ، وَاخْتِبَارُ الْبَائِعِ الثِّقَةِ عَمَّا بَاعَهُ أَنَّهُ طَيِّبٌ مَقْبُولٌ، وَقَبُولُ قَوْلِ مَنْ هُوَ عَلَى خِلافِ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ الْوَرَعِ لَكِنْ هُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ يَقُولُ: لا أَدْرِي شَأْنَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الأَخْذِ بِالأَشْبَهِ، وَإِذَا اشْتَبَهَتِ الأَقْوَاتُ فِي الأَسْوَاقِ وَعُلِمَ اسْتِقَامَةُ أَصْلِهِ مِنْهَا أَوْ سَتْرُهُ عَنِ الحَرَام حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ إِذَا جُهِلَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ، وَما غَلَبَ عَلَيْهِ الرِّيبَةُ عُمِلَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا جُهِلَ مِنْهُ حَتَّى يَنْكَشِفَ صِحَّةُ أَصْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُتَحَرِّي مَا يَتَحَرَّى بِهِ إِلا سُؤَالَ الْبَاعَةِ فَلْيَخْتَبِرْ مِنْهُمْ بِأَحْسَنِهِمْ تَوَقُّفاً وَأَصْدَقِهِمْ قَوْلاً.
قَالَ: وَلا يُقَالُ فِي الْغَلَّةِ: إِنَّهُ لا شُبْهَةَ فِيهَا إِنْ كَانَتِ الأُصُولُ رَدِيئَةً، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكاً لِمَنِ اعْتَلَّهَا كَمَا أَخْبَرْتُكَ فِي طَعَامٍ بِكِرَاءِ الأَرْضِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، وَقَدْ مَنَعَ سَحْنُونٌ رَجُلاً كَسْبُهُ مِنْ بَلَدِ السُّودَانِ أَنْ يَعْمَلَ مِنْهُ قَنْطَرَةً بِقُرْبِ دَارِهِ، وَإِنْ كَانَ لا مَطْعَنَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَرَاهَةُ فِي نَفْسِ السَّفَرِ لِوُجُوهٍ أُخَرَ، وَلَوْ كَانَتِ الْغَلَّةُ لا شُبْهَةَ فِيهَا، يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ طَعَامٍ مِنْ حَرْثِ الأَرْضِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ بِبَقَرٍ مَغْصُوبَةٍ وَزَرِيعَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَنَحْنُ لا نَأْمُرُ بِهَذَا ابْتِدَاءً وَلا نَنْقُضُهُ إِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute