للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الأصمعي: هذا حسنٌ كلّه وغيرُه أحسن منه، وقد شرِكَهُ في هذه المعاني جماعة من الشعراء. وبعدُ فطرَفَة صاحبُ واحدة، لا يُقْطَع بقوله على البُحور، وإنما يُعَدّ مع أصحاب الواحدة. قال: ومَنْ أصحاب الواحدة؟ قال: الحارث بن حِلِّزة، والأسْعَرُ الجُعَفي، والأفْوَهُ الأوديّ، وعلقمَةُ الفحْل، وسُويد بن أبي كاهِل، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن مَعْديكرِب. قال الأصمعي: فاسْتخَفّتِ الرشيدَ الأريحيّة فقال: ادْنُ، فإنّك جَحيشُ وحدَك، قال: فزاد في عيني نُبْلاً. فقال جعفر متمثِّلاً: لبِّثْ قليلاً يلحَقِ الهَيْجا حمَلْ. يعرِّضُ بأنه يجوز أن يلحَقَ هو ما يحاوله. فقال الرشيد:

فاتَتْك واللهِ السوابِقُ في المَدى ... وجئْتَ سُكَيتاً ذا زوائد أرْبَعا

قال: ورأيت الحميّةَ في وجهه. فقال جعفر: على شَريطةِ حِلمِك يا أمير المؤمنين، فقال: أتراه يسع غيرَك ويضيقُ عنْك!؟ فقال جعفر: لستُ أنصّ على شاعر واحد أنه أحسن الناس تشبيهاً في بيت واحد، ولكنّ قول امرئ القيس من أحسن التشبيه حيث يقول:

كأنّ غُلامي إذْ عَلا حالَ مَتْنِه ... على ظَهْر بازٍ في السّماءِ محلِّقِ

وقال عَديُّ بن الرِّقاع:

يتعاوَرانِ من الغُبار مُلاءَةً ... غبْراءَ مُحْكَمَةً هما نَسَجاها

تُطوى إذا علَوا مكاناً ناشِزاً ... وإذا السنابكُ أسْهَلَتْ نَشَراها

وقول النابغة:

فإنّك شمسٌ والملوكُ كواكِبٌ ... إذا طلَعَتْ لم يَبْد منهنّ كوْكَبُ

من هذا المعنى أخذ نُصَيْبٌ قولَه:

هو البدرُ والناسُ الكواكبُ حولَهُ ... وهل تُشبِهُ البدرَ المُضيءَ الكواكبُ

قال الأصمعي: هذا كلّه ناصعٌ بارع وغيرُه أبرع منه، وإنما يحتاج أن يقع التعيين على ما اخترعه قائلُه فلمْ يتعرّض له، أو تعرّض له شاعرٌ فوقَع دونه.

فأما قول امرئ القيس: على ظهر بازٍ في السماء محلقِ، فمن قول أبي داؤد:

إذا شاءَ راكبُه ضمَّهُ ... كما ضمّ بازٌ إليه الجَناحا

وأما قول عديّ: يتعاوران من الغبار مُلاءة، فمن قول الخنساء:

جارَى أباهُ فأقْبَلا وهُما ... يتعاوَران مُلاءَةَ الحُضْرِ

وأول من نطق بهذا المعنى شاعرٌ جاهلي من بني عُقيل، قال من أبيات:

قِفارٌ مَرَوْرات يَحارُ بها القَطا ... ويُضحي بها الجأبانِ يعتَركانِ

يُثيرانِ من نسجِ العَجاج عليهما ... قَميصَيْنِ أسْمالاً ويرتديانِ

وأما قول النابغة: فإنّك شمسٌ البيت، فقد تقدّمه فيه شاعر قديم من شعراء كِندة يمدحُ عمرو بن هند وهو أحقّ به من النابغة إذ كان أبا عُذْرَتِه:

تكادُ تميدُ الأرضُ بالناس أن رأَوْا ... لعمرو بنِ هِنْدٍ غضبةً وهو عاتبُ

هو الشمسُ فاقَتْ يومَ سعْدٍ فأفضلَتْ ... على ضوءٍ والملوكُ كواكبُ

قال: فكأنني والله ألقَمْتُ جعْفَراً حجراً، واهتزّ الرشيد من فوق سريره أشَراً فكاد يطيرُ عجباً وطرباً وقال: يا أصمعيّ اسمَعْ ما وقع اختياري عليه الآن. فقلت: ليَقُلْ أمير المؤمنين، أحسنَ الله توفيقَه. قال: قد عيّنْتُ على ثلاثة أشعارٍ أُقسم بالله إني أملِكُ قصَبَ السَّبْقِ بأحدِها؛ فهل تعرفُ يا أصمعيُّ تشبيهاً أفخم وأعظم في أحقر مشبَّهٍ وأصغرِه في أحسن مَعْرِضٍ من قول عنترة:

وخَلا الذُّبابُ بها فليس ببارِحٍ ... غَرِداً كفعلِ الشّاربِ المترَنِّم

غرِداً يسِنُّ ذِراعَهُ بذراعِهِ ... قَدْحَ المُكبِّ على الزِّنادِ الأجذَمِ

ثم قال: يا أصمعيّ، هذا من التشبيهات العُقم، فقلت: هو كذلك يا أمير المؤمنين، وبمجدِك آليتُ ما سمعتُ أحداً وصف في شعرٍ شيئاً أحسن من هذه الصفة، ولا استطاع بلوغ هذه الغاية. قال: مهْلاً لا تعجَلْ، أتعرِفُ أحسنَ من قولِ الحُطيئة في وصف لُغام ناقتِه أو تعلم أحداً قبلَه أو بعده شبّه تشبيهَهُ حيث يقول:

ترى بين لَحْيَيْها إذا ما تبغّمَتْ ... لُغاماً كبيتِ العنكبوتِ المُمَدَّدِ

قال: فقلت: ما علِمْتُ أحداً تقدّمه أو أشار الى هذا المعنى بعدَه، قال: أفتعرفُ أبرعَ وأوقَع من تشبيهِ الشَّماخ لنعامةٍ سقط ريشُها وبقي أثرُهُ في قوله:

<<  <   >  >>