وأما قولُنا في أول الفصل: وهل تعاطيه أصلَحُ أم رفضُه أوفر وأرجحُ، فالجواب: كيفَ يكون ترْك الفضائلِ خيراً من تعاطيها، واجتنابُ المناقِبِ أصلحَ من مواصلَةِ مَعالِيها، وما علِمْنا أنّ أحداً من البشَرِ استطاعَ نظمَ الشِّعرِ وكان فيه مُجيداً، وتركَ ذلك، ولم يكنْ يشتهرُ به وينتسبُ إليه، إلا أن يكونَ فيه مُقَصّراً، وعن السوابقِ سُكَيتاً آخِراً، فيجوزُ أن يتركَهُ لعجزِه عنه، ونفوذِ جيّدِه منه. كما نُقِلَ عن المأمونِ لمّا قيلَ له: هلاّ نظمتَ شِعراً، فقال: يأْباني جيّدُه وآبى رَديئَه، وله مع هذا أشعارٌ كثيرة مشهورة.
ولو عدّدْنا مَنْ تعاطى نظْمَ الشِّعرِ من الخُلفاءِ، والملوكِ والأمراءِ والوزراءِ، والقُضاةِ والزُهّادِ، والقوادِ والعلماء والأشْرافِ، لأفرَدْنا له كِتاباً يجِلُّ رقمُهُ ويثقُلُ حجمُه. حتى إنّ جماعةً من ملوكِ بني بُوَيْه رَشَوْا جماعةً من الشُّعراءِ حتى نظَموا لهم أشعاراً فنَسبوها الى أنفسهِم، ودوّنوها على ألسنتِهم؛ لِما في ذلك من المنزلةِ الرفيعةِ، والخَلّةِ الجميلةِ، والمَنْقَبَةِ الجليلةِ، والفضيلةِ النبيلة. ولولا ذلك لما تحلّوْا بحُلِيّه ولا تزَيّنوا بجلابيبِه.