للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكلّ فضيلةٍ نبيلةٍ ومَنقَبة جليلةٍ عندَ بُغْيَتِه مُستَصْغَرةٌ، وكلُّ درجةٍ رفيعةٍ، وحوزةٍ منيعةٍ، عندَ طلبتِه نازلةٌ سهلةٌ، فمرادُه أن يقول: كيفَ ترضى لنفسِكَ أن يُقالَ عنك: هذا شاعِرٌ، مقتصراً على هذه السّمةِ، ومقتنعاً بهذه المنزلة، وواقِفاً على هذه الغاية، وتترك الجِدَّ والاجتهادَ في إدراكِ الرتبة التي أنت مؤمِّلُها، وتحصيلِ الأمنيّةِ التي أنتَ طالبُها. ثم قال: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائِلِ، أي بُعْداً لهذه الفِعْلَةِ مما يعدَّدُ في الفضائلِ التي خُصصتَ بها، حثّاً لنفسِه وتحريضاً لها في طلَبِ أمْرٍ هو من الشِّعْرِ أعْلى محَلاًّ، وأغلى حِليّآً، وأوفى شرَفاً، وأوفرُ قيمةً، وأعزُّ موضِعاً، ولم يقصِدْ أنّ الشِّعرَ خَصلةٌ مرذولةٌ وخَلّةٌ مذمومةٌ. وكيف يذهبُ الى ذلك أو يدّعيهِ أو يقولُه، وبالشِّعرِ شُهِرَ اسمُهُ وأضاءَ نجمُهُ، وتوفّرَ من الأدبِ قِسْمُه، وأغرضَ في الفَخْرِ سهْمُه، وأفنى فيه عمرَهُ، وقضّى بمصاحَبتهِ دهرَهُ، ولو ادّعى أنّ الشِّعرَ خَلّةٌ رذيلةٌ ومنزلةٌ وضيعةٌ، لم يُلْتفَتْ إلى زعمِه، ولا اتّسَقَ له أن يحُجَّ بذلك حُجّةَ خصمِه، ولا قولُه فيه مقبول ولا مُسلّم إليه.

وقد تقدّم من قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم في مدحِه ووصفِه وأقوالِ صحابتِه ما يدْحَضُ كلَّ حجةٍ، ويوضحُ في الفُلْجِ كلَّ محَجّةٍ. ومما يدُلّ على أن الرضيَّ كان يحدِّثُ نفسَهُ بما تُسْتَصْغَرُ معه المراتبُ الجليلةُ، والفضائلُ النبيلةُ، ما كاتَبَهُ به أبو إسحاق الصابئ الكاتب، إمّا مُستهزِئاً بهِ لاهياً، أو صادِقاً في مدحِه متناهياً، وهو:

أبا حسَنٍ لي في الرّجالِ فِراسةٌ ... تعوّدْتُ منها أن تقولَ فتَصْدُقا

وقد خبّرَتْني عنكَ أنّك ماجِدٌ ... ستَرقَى من العَلياءِ أبعَدَ مُرْتَقى

فوفّيْتُك التعظيمَ قبلَ أوانِه ... وقُلتُ: أطالَ اللهُ للسيِّدِ البَقا

وأضمرتُ منهُ لفظةٍ لم أبُحْ بها ... إلى أن أرى إظْهارَها ليَ مُطْلَقا

يعني: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين.

فإنْ عِشْتُ أو إنْ مِتُّ فاذكرْ بِشارَتي ... وأوْجِبْ بها حَقّاً عليكَ مُحَقِّقا

وكنْ ليَ في الأولادِ والأهْل حافِظاً ... إذا ما اطمأنّ الجَنْبُ في مَضْجَعِ النّقا

لا ريبَ عندي أنّ أبا إسحاقَ لاهٍ في قولهِ، وأنّ باطنَهُ فيه ضدُّ ظاهرِه، وإنما أتاهُ بما يوافِقُ غرَضَهُ وتحدّثُه به نفسُه؛ ليحرِّكَ بمجونهِ ساكنَ منْجَنونهِ، كما قيلَ في المثلِ حرِّكْ لَها حُوارَها تحِنّ. وأعجبُ من هذا قبولُه لقولِه، وإجابتُه له بقصيدةٍ، منها:

لَئِنْ برَقَتْ مني مَخائِلُ عارِضٍ ... لعَيْنَيْكَ تقضي أنْ يجودَ ويُغدِقا

فليسَ بساقٍ قبلَ رَبْعِكَ مَربعاً ... وليسَ براقٍ قبلَ جوِّكَ مُرْتَقى

وإنْ صدّقَتْ منه الليالي مَخيلةً ... فكُنْ بجديدِ الماءِ أوّلَ من سَقى

وإنْ تَرَ ليْثاً لابداً لفريسةٍ ... يُراصِدُ غِرّاتِ المقاديرِ مُطْرِقا

فما ذاكَ إلا أنْ يوفِّرَ طُعْمَها ... عليكَ إذا جلّى إليها وحقّقا

فإنْ راشَني دهْرٌ أكنْ لكَ بازِياً ... يسُرُّكَ محصوراً ويُرضيكَ مُطلَقا

أشاطِرُكَ العِزَّ الذي أستَفيدُه ... بصَفْقَةِ راضٍ إنْ غَنِيتَ وأمْلَقا

فتَذهبُ بالشّطرِ الذي كلُّهُ غِنىً ... وأذهبُ بالشطرِ الذي كلُّه شَقا

فغَيْري إذا ما طارَ غادرَ صَحْبَهُ ... دُوَيْنَ المعالي واقعينَ وحلّقا

لعلّ الليالي أنْ يبلِّغْنَ مُنْيَةً ... ويقْرَعَنْ لي باباً من الحظِّ مُغْلَقا

نَظارِ ولا تَسْتَبْطِ عزْمي فلَنْ تَرَى ... عَلوقاً إذا ما لَمْ تَجِدْ مُتَعلَّقا

وإن قعَدَتْ بي السِّنُّ عنها فإنهُ ... سينهضُ بي مَجْدي إليها مُحَقِّقا

فمَنْ في نفسِه مثلُ هذا كيفَ يَرى الاقتناعَ بمرتَبةِ الشعرِ ولا يقول: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائل.

<<  <   >  >>