للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال له قيس: يا ويلكَ تقول وقد زعَموا. وهذه كلمةٌ لا تُستعمَل إلا عندَ الشكِّ في صِدْق القائل! فجعلها حَشْوةً أفسدَ بها معنى البيت. فلو قال:

ونُبّئْتُ قيساً ولمْ آتِه ... على نأيِهِ سادَ أهلَ اليمَنْ

لخلَص من ذلك.

وينبغي للشاعر أن يتعفّفَ في شعرِه ولا يستَبْهِرَ بالفواحشِ، ولا يتهكّمَ في الهجاء، فإنّ العلماء ذمّوا من اعتمد ذلك، ومن كان يتعهّرُ ولا يتستّرُ مثل امرئ القيس في قوله:

ومثلِك حُبْلى قد طرَقْتُ ومُرضع ... فألْهَيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ

وينبغي للشاعر أن يستعمل لفظةً لإقامة وزنِ البيت وهي مُفسِدة بمعناها له، وإذا حكَم عليه البيتُ بذلك فالأوْلى إسقاطُه. ألا ترى ذا الرُمّة وقوله:

حَراجيجُ ما تنفكُّ إلا مُناخةً ... على الخَسْفِ أو ترمي بها بلداً قَفْرا

كيف أدخلَ إلا بعد ما تنفك لإقامة وزن البيت فأفسدَه. لأنّ مايزالُ وماينفك في كلامِهم جَحْدٌ وإلا تحقيقٌ، فكيف يجتمعان! ولهذا لو قُلت: مازالَ زيدٌ إلا قائماً، لم يجُزْ.

وينبغي للشاعر أنه إذا رأى الشِّعرَ قد اعتاصَ عليه ومنعَ جانبَه منه أنْ يتركَهُ في تلك الحال ولا يكُدَّ قريحتَه فيه، ولا يكلِّفَ خاطرَهُ اقتحامَ مهاويه. فقلّما يجيءُ الشعر على تلك الحال كما يؤْثِرُ الشاعرُ، ولعلّ في تركِه له حدوثَ معنىً لم يكنْ في الخاطر من قبْلُ، وقد وقعَ لجماعةٍ من الشعراءِ مثلُ ذلك كثيراً.

قيلَ: لما وفدَ ذو الرُمّة على بلال جعلَ يتردّدُ إليه ويحاولُ أن يبتدئَ قصيدةً فيه والشّعرُ يعتاصُ عليه فلا يقدرُ أن يصل إليه، فقال له عجوزٌ كان يُكثر الغُدوَّ والرَّواحَ عليها. وكان جميلاً: قد طالَ تَردادُك يا فتى، أفإلى زوجةٍ سعِدتَ بها، أم الى خُصومةٍ شَقيتَ من أجْلِها، فالتفت ذو الرُمّة الى راويتِهِ وقال: جاء والله ما أريد، ثمّ أنشأ قائلاً:

تقولُ عجوزٌ مَدْرَجي مُتروِّحاً ... على بابِها من عِنْدِ أهلي وغادِيا

الى زوجةٍ بالمصرِ أمْ لخُصومَةٍ ... أراكَ لها بالبصرةِ العامَ ثاوِيا

ومرّ في القصيدة، فكأنّ العجوزَ اقتدَحَتْ بكلامِها زَنْدَ خاطرِه.

والفصيحُ في اللغة أن يُقال: فلانةٌ زوجُ فلان ولا يقالُ زوجةُ فلان. وقال ابن مناذر قلت:

يَقدحُ الدهرُ في شماريخِ رضوى

ومكثتُ حوْلاً لا أقدرُ على إتمامِه فسمعتُ قائِلاً يقول: هَبّود، فقلت: وما هَبّود؟ قيلَ جبلٌ، فقلت:

ويحطُّ الصّخورَ من هبّود

وفي مثلِ هذه الحكاية ما حدّثَ به أبو الحسن عليُّ بنُ نصْرٍ الكاتب قال: حدّثني زعيمُ المُلك قال: قال لي أبو الحسن الجهرميّ: لمّا عملتُ قطْعَتي التي أصِفُ الدّيكَ فيها، وأوّلها:

يا رُبَّ أفرَقَ قُبْرُ سِ ... يٍّ ليسَ بالجَزِعِ الفَروقِ

علِقَ الدُجى بذيولِهِ ... لمّا تطلّسَ بالبُروقِ

فالنّارُ لونُ لِباسِه ... وسِواهُ منها في حَريق

حُذيَ النُّضار وزيدَ تحْ ... سيناً فتُوِّجَ بالعقيقِ

فتخالُهُ خاضَ الأصي ... لَ وبلَّ فرْعاً بالشُروقِ

يمشي بمِهْمازَيْنِ إم ... ما للنّجاةِ أو اللُّحوقِ

سكِرَتْ لحاظُ الناظري ... هـ بكأسِ مَفْرقِه الرّحيقِ

بقيتُ أياماً أفكّرُ في بسْطِ رجلِه إذا وطِئَ الأرضَ ورفعِها متمَهِّلاً أن يضعَها على الأرض، ومازلْتُ أقبِضُ يديَ وأبسطُها متطلّباً المعنى، فقالتْ لي امرأة كانت تراني: أيُّ شيءٍ بك، كأنك تقارعُ أحداً؟ فقلت لها: رفّهتِني وخرجتِ إليّ بغَرضي ثمّ قلت:

مُتشابِهُ الخطَواتِ ينْ ... قُلُهنّ بالمَهْلِ الرفيقِ

رِجْلٌ تُريكَ يدَ المُقا ... رعِ في مُصافحةِ الطريقِ

وينبغي للشاعر أن يُقارِبَ بين الألفاظِ ولا يُباعِدَ بينها، فهو عيبٌ، كما قيل: إنّ الكُمَيْت أنشد نُصَيْباً قولَه:

وقد رأينا بها حُوراً منَعَّمةً ... بِيضاً تكاملَ فيها الدّلُ والشنبُ

فعقدَ نُصَيْبٌ خِنصَرَهُ فقال له الكُمَيْت: ما هذا؟ قال: أعُدُّ غلطَك، هلاّ قُلتَ كما قال ذو الرّمّة:

<<  <   >  >>