للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:

وعديٍّ كالمستريح قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلاً! فقال الفرزدق: يا لُكع، إنه يقول:

قَلَمٌ أصَابَ من الدَّواةِ مِدَادَها

فقال عديّ:

قَلَمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدادَها

فقال جرير: كان سَمْعُكَ مخبوءاً في صدره! فقال لي: اسكت شغلني سَبُّكَ عن جيد الكلام فلما بلغ إلى قوله:

ولقدْ أرادَ الله إذْ ولاّكها ... مِنْ أُمَّةٍ إصلاحَها ورشادَها

قال الأصمعي: فقال لي: ما تراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ فقلتُ: قال: كذا أراد الله، فقال الرشيد ما كان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ما شاء الله! قلت: وكذا جاءت الرواية، فلما أتيتُ على آخرها قال لي: أتروي لذي الرمة شيئاً؟ قلت: الأكثر، قال: فماذا أراد بقوله:

مُمَرٌّ أمَرَّتْ مَتْنَهُ أسَدِيَّةٌ ... ذِراعيةٌ حَلاَّلةٌ بالمصانعِ

قلت: وصف حمار وحش، أسْمنهُ بَقْلُ روضةٍ تواشجَتْ أصوله، وتشابكتْ فروعه، على مطر سحابةٍ كانت بنَوْءِ الأسَد في الذِّراع من ذلك. فقال الرشيد: أرحْ، فقد وجدناك ممتعاً، وعرفناك مُحسناً، ثم قال: أجدُ ملالةً، ونهض، فأخذ الخادم يُصلح عَقِبَ النَّعل في رجله وكانت عربيةً، فقال الرشيد: عَقَرْتَني يا غلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم، أما أنها لو كانت سنديةً لما احتجتَ إلى هذه الكلفة، فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي، كم تُعارض فلا تُتْرَك من جواب مُمِضٍ! ثم قال: يا غلام؛ يؤمَرُ صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته ولا يُحجَبُ في المستأنف، فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمرُ فيه غيره لأمرتُ لك بمثل ما أمر لك، وقد أمرت لك به، إلاَّ ألف درهم، فَتَلَقَّ الخادم صباحاً.

قال الأصمعي: فما صليتُ من غدٍ إلاّ وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.

٢٦

<<  <