اعلم أن الذي بلغ إليه فهمي ووصل إليه نهاية علمي، أن مراد المولى قدس الله سره بذلك هو الروح المعبر عنه بالنفس الناطقة، ولنتعرض في هذه المقدمة لثلاثة فصول: الأول: في ذكر الاختلاف في جواز التكلم فيها وعدمه.
والثاني: ما قيل في ماهيتها.
والثالث: في بقاها بعد الموت واستقلالها، وأن الأرواح هل خلقت قبل الأجساد أو لا.
[الفصل الأول]
[في ذكر الإختلاف في جواز التكلم فيها وعدمه.]
قال الله تعالى:(وَيَسأَلونَكَ عَنِ الروح قُل الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أُتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَليلاً) اختلف أهل التفسير في معناها، فقيل هو سؤال عن حقيقة الروح، وجوابه إنه مما استأثر الله بعلمه، وهو الذي صدى صاحب (الكشاف) ونقل عن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، قال ابن حجر في تخريجه ذكره الواحدي في الوسيط عن عبد الله بن بريدة، ولم يسق إسناده وإليه ذهب تاج الدين السبكي في (جمع الجوامع) قال: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فنمسك عنها. قال شارحه البدر الزركشي في (تشنيف المسامع) وهذه طريقة المحتاطين كالجنيد رضي الله عنه. فإنه قال: الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى:(قُل الروح مِن أَمرِ رَبي) وعلى ذلك جرى خلق من أئمة التفسير كالثعالبي وابن عطية، وكذلك الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتابه (عوارف المعارف) فإنه قال: الكلام في الروح صعب المرام والإمساك عن ذلك دليل ذوي الأحلام، وقد عظم الله سبحانه شأن الروح وسجل على الخلق بقلة العلم، فقال:(وَما أُوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلا قليلاً) ثم استدل بحديث ابن عباس أنها قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح التي في الجسد وإنما الروح من أمر الله. ولم يكن نزل إليه شيء فلم يجبهم. فأتاه جبريل بهذه الآية. قال: وحيث أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخبار عن الروح وما هيته بإذن الله ووحيه وهو صلى الله عليه وسلم معدن العلم وينبوع الحكمة، كيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المتطلعة إلى الفضول المسفوفة إلى العقول المتحركة بوصفها إلى كل ما أمر بالسكون فيه والمتسورة بحرصها إلى كل تحقيق وتمويه، وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر وخاضت غمرات معرفة ماهية الروح، تاهت في التيه وتنوعت آراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالإخلاف في ماهية الروح ولو لزمت النفوس حدّها معترفة بعجزها، كان ذلك أجدر بها وأولى كلامه وقد جنح فيه إلى أن الأولى عدم التعرض للكلام فيه لا المنع مطلقا لما سننقله عنه إن شاء الله من بيان مختارة فيه على جهة التأويل لا التفسير. فإنه قال: لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمد العقول إليه الباع الطويل. وحكى الطيبي عن الإمام فخر الدين بن الخطيب: أن المختار إنهم سألوه عن الروح وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أجاب على أحسن وجه بقوله: الروح من أمر ربي، أي موجود محدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء ماهيتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها. وتبعه البيضاوي فقال: إنه إشارة إلى أن الروح مما لا يمكن معرفة ذاته إلا بعوارض تميزه عما يلتبس فلذلك اقتصر على هذا الجواب كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب وما رب العالمين بذكر بعض صفاته.
قال المحقق سراج الدين بعد إيراده لكلام القاضي: ومن طلب الحق بالمجاهدة يلوح له ما يحتذيه منارا إلى عالم المشاهدة وقد أجاب المتكلمون على ماهية الروح عن الأولين المتمسكين في المنع بظاهر الآية بوجوه، أحدها: إن اليهود كانوا قد قالوا إن أجاب عنها فليس بنبي، وإن لم يجب فهو صادق، فلم يجب لأن الله لم يأذن فيه ولا أنزل عليه بيانه في وقته تأكيدا لمعجزته وتصديقا لما تقدم من وصفه في كتبهم لا لأنه لا يمكن الكلام فيه.